أعلن الخميس الماضي عن إغلاق أبواب الترشح للانتخابات البلدية بعد أن تم استلام مختلف القوائم الحزبية والائتلافية والمستقلة والتي بلغت 2173 قائمة. هذا الإعلان احتل حيزا مهما في وسائل الإعلام وتم الترويج له على انه خطوة نحو ترسيخ المسار الديمقراطي في محاولة لاصطناع حدث ايجابي للخروج من حالة الانهيار السياسي والاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ عدة شهور.
لم يعد خافيا على احد أن البلاد أصبحت تُدار على وقع الضغوط الخارجية سواء من صندوق النقد الدولي أو من الاتحاد الأوروبي, وأن الحكومة فقدت زمام المبادرة في تحديد سياسة اقتصادية واضحة, عدى تنظيم مؤتمرات “التسوّل الدولي” تحت عنوان “الاستثمار الدولي” وانتظار ما يمكن أن يتحقق من وعود, أو مسايرة الضغوطات الخارجية بالتعهّد بإحداث تغييرات قانونية من اجل إخراج البلاد من القائمات السوداء.
ضغوطات صندوق النقد
ما شهدته البلاد من احتجاجات شعبية أول السنة الإدارية كان نتيجة الضغوط والشروط التي مارسها خبراء صندوق النقد الدولي من اجل تغيير النظام الأساسي للبنك المركزي, والذي تخلى فيه البنك عن دوره في الحفاظ على العملة المحلية, وهو ما أدّى إلى تدهور قيمة الدينار, ودخول البلاد في دوّامة ارتفاع الأسعار وزيادة المديونية وتفاقم العجز التجاري. كما أن صمت الدولة وجمودها أمام تفاقم معدلات البطالة وتدهور الخدمات الصحي كان بسبب التزامها بتوصيات صندوق النقد في منع الانتدابات وتخفيض كتلة الأجور رغم حاجة العديد من القطاعات للكوادر البشرية بسبب النقص الحاصل من التقاعد أو الهجرة.
ضغوط الاتحاد الأوروبي
أما الاتحاد الأوروبي, فبرغم نفوذه الاستعماري القديم في تونس, وما تتمتع به شركاته وبضائعه من امتيازات تفاضلية لا يتمتع بها أبناء البلد, فقد انخرط في الفترة الأخيرة في حملة من الضغوط المقصودة والمتعمدة, وذلك بإدراج تونس ضمن العديد من القوائم السوداء التي يصدرها, مثل القائمة السوداء للجناة الضريبية أو القائمة السوداء للدول المهددة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب, ثم بعد ذلك يتظاهر المسئولون الأوروبيون بالسعي لمساعدة الحكومة للخروج من هذه القائمة عبر دفعها للالتزام كتابيا بإحداث تغييرات قانونية معينة في آجال محدودة مقابل نقلها من القائمة السوداء إلى قائمة أخرى أقل سوادا.
ومن الجدير بالذكر أن القوانين المشار إليها لتغييرها ليست وليدة السنوات الأخيرة بل معظمها كان موجودا قبل الثورة, وهو ما يؤكد أن اختيار توقيت التصنيفات السوداء في الفترة الأخيرة لم يكن صدفة وإنما بدواع سياسية لها علاقة بدفع الحكومة نحو تسريع موافقتها على توسيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ALECA, خصوصا وقد تبين ازدياد الرفض العام لهذا الاتفاق, بل وحتى الدعوة إلى مراجعة اتفاق 1995 الذي تسب في كوارث اقتصادية لا نزال نشهد تداعياتها.
انتخابات على مضض
في ضل هذا الانكشاف السياسي والتراجع الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي يأتي الإعلان على انطلاق أولى الخطوات العملية للانتخابات البلدية بعد تردد واضح من الحكومة, وبعد المشاكل التي وقعت فيها الهيئة المستقلة للانتخابات. وحتى هذه الانتخابات البلدية لم تسلم من الضغوط الخارجية, فمراكز البحوث والتفكير مثل “مجموعة الأزمات الدولية” ومركز “فريدم هاوس” القريبة من الإدارة الأمريكية, في تقاريرها بداية سنة 2018 أشاروا صراحة إلى تراجع المسار الديمقراطي في تونس بسبب التجاوزات المتكررة للرئيس “الباجي قايد السبسي” المخالفة للدستور, ومستغربين التأجيل المتعمد والمتكرر للانتخابات المحلية رغم مضي سبع سنوات على رحيل نظام “بن على”, ومحذرين من عودة العمليات الإرهابية بسبب هذا التراجع, أو حدوث قلاقل اجتماعية خارجة عن السيطرة. كما أن قيام السفير الأمريكي بتونس بزيارات لعدد من البلديات مثل “قفصه” و”منوية” واعتزامه تمويل العديد من المشاريع البلدية هو رسالة سياسية حول أهمية العمل البلدي واستعداد المؤسسات الامركية – المشروط دائما – للعمل مع البلديات.
لذلك فليس من المستغرب أن نرى هذه الانتخابات البلدية يجرى تحديد توقيتها بعد تردد وفي ظروف مستعجلة, مع هيئة انتخابات غير مكتملة , أما الأكثر غرابة فهو أنها تجري دون إنجاز قانون الجماعات المحلية الذي كثر الحديث عنه دون جدية من الحكومة في انجازه.
إن الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس هي أزمة تبعية للرأسمالية المتوحشة التي تقودها الدوائر المالية والاقتصادية الأوربية والأمريكية, فهي أزمة نظام وليست أزمة أشخاص. وبدون تغيير النظام السياسي القائم في تونس لن تنجح المواعيد الانتخابية إلا في إيهام الناس بإمكانية تغيير,وإطالة معاناة الفقراء والعاطلين والمهمشين. وستكون هذه الانتخابات مجرد طقوس وكهنوت ديمقراطي في خدمة الغرب الرأسمالي ووكلاؤه المحليين.