انهارت أسعار النفط في أمريكا إلى ما دون الصفر بداية من الأسبوع الفارط لأول مرّة في التاريخ مع سعي المستثمرين للتخلص من مخزوناتهم من الخام بعد أن أصبح تخزين النفط يشكل مشكلة بسبب تكلفته المرتفعة مع امتلاء الصهاريج بالكامل. وأصبح من الصعب على المتعاملين العثور على مشترين في أقرب وقت ممكن مع انتهاء التعاملات وانهيار الطلب على الطاقة بسبب تراجع الاستهلاك بفعل تفشي فيروس كورونا والحجر المفروض على أغلب بلدان العالم.
حدث تاريخيّ خرج على إثره مباشرة بعض ممن يدّعون الإختصاص في مجال النفط والطاقة, يُهلّلون ويبشرون ب”فرصة تاريخية لتونس للإستفادة من اختلال أسعار النفط وتحقيق فائض طاقي”
إذ زَعموا أن الوضع الجديد وضع تونس في خانة الربح, حيث جعل الدولة تبيع المحروقات بأكثر من كلفتها بما يصل إلى 55 و65% رغم التخفيض الأخير في أسعار المحروقات في محطات الوقود. وروّجوا إلى أن “تونس ستستفيد من انهيار الأسعار بوصفها دولة غير منتجة للنفط وأن انخفاض أسعار النفط سیؤثر إيجابیا على میزانیتها من خلال تقلیص الضغط على مخصصات الدعم في قطاع المحروقات”.
كما طرحوا أيضا فرضية تخفيض أسعار الوقود في تونس خلال الفترة القادمة, في ظل آلية التعديل التلقائي لأسعار المحروقات المعتمدة في تونس.
أغلب هؤلاء “العارفين بالمجال” يتواجدون بصفة دورية في منابر القنوات التلفزية والمحطات الإذاعية يرددون الكذبة ذاتها, وينشرون المزاعم ذاتها التي ذكرناها أعلاه. تأكيدا منهم على أن تونس بلد فقير من الثروات النفطية ويعاني عجزا طاقيا, مصرّين على تقديم مشروعية لما فعلته الحكومات بثروات البلاد من تضييع وتمليك لشركات النهب الأجنبية العابرة للقارات, وإخفاء تقارير البنك المركزي والمعهد الوطني للإحصاء الخاصة بالكميات الحقيقية للمقدرات الطاقية في تونس.
فالدعوة إلى استغلال انخفاض الأسعار لتخزين كميات من النفط فيها استغفال للعقول واستبلاه فاضح لأدنى مدارك الناس ووعيهم, إذ وكأننا بالجماعة يقولون إننا لا نملك ثروات ولا بترول وميزانية الدولة تعاني عجزا من جراء دعم المحروقات, ولهذا علينا استغلال الفرصة والإستفادة من الوضعية الدولية…
في حين أن المحروقات في تونس غير مدعمة حاليا وتساهم بإدخال مرابيح للدولة، بحكم الشراءات التي وقعت في نصف مارس, وهذا وفقا لما صرّح به كمال الشارني المكلف بمهمة لدى وزير الطاقة والمناجم والانتقال الطاقي منجي مرزوق، يوم الجمعة 24 أفريل 2020.
وإن الجميع يعلم أن هذه الحكومة كسابقاتها سلّموا الحقول النفطية التي بعضها يمدّ البلاد ب 60 بالمائة من حاجياتها.. سلموها إلى شركات بريطانية بالأساس.. بأثمان بخسة, وذلك بشهادة عديد الخبراء الجادين في المجال… فمن المعيب أن يأتي اليوم من يقول إن تونس ليست دولة منتجة للنفط بينما يرى بأم عينه كيف توزّع الحكومات لزمات الاستكشاف والإستغلال لشركات النهب الأجنبية لتجوب البلاد طولا وعرضا.. وكيف مددوا الطرقات في صحاري الجنوب لعبور آليات تلك الشركات, وسخّروا لها جيشنا ليحرسهم أثناء عمليات نهبهم المتواصل, ومنعوها على أهلها حتى لرعي الأغنام…
البنك الدولي: صانعو السياسات يمكنهم الاستفادة من تراجع أسعار النفط لدعم إصلاح قطاع الطاقة
خلص البنك الدولي إلى أن الصدمة الاقتصادية العالمية لكوفيد -19 أدت إلى تراجع أغلب أسعار السلع الأساسية وأنه يمكن لواضعي السياسات الاستفادة من أسعار النفط المنخفضة لإجراء إصلاحات لدعم الطاقة وتحرير الإنفاق للأغراض العاجلة.
وقالت نائبة رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون النمو المنصف والتمويل والمؤسسات سيليا بازارباسيوغلو: “إنه يمكن أن يستفيد واضعو السياسات من أسعار النفط المنخفضة لإجراء إصلاحات لدعم الطاقة بهدف المساعدة على إيجاد حيز في المالية العامة للإنفاق على الأنشطة الملحة ذات الصلة بمكافحة الجائحة”.
ويجب أن يصاحب هذه الإصلاحات تقوية شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الشرائح الأكثر احتياجا والأولى بالرعاية في المجتمع.
ويجب أن يقاوم واضعو السياسات المطالبة بفرض قيود وإجراءات تجارية تعرض الأمن الغذائي للخطر، لأن الفقراء هم الأكثر تضررا”.
خطاب موجه لواضعي السياسات والسياسيين الفعليين الحاكمين في بلدانهم, ولا ينطبق بأي شكل من الأشكال على أمثال حكامنا من المنفذين لسياسات غيرهم من حكام ومنظمات والمؤسسات المالية الاستعمارية, والبنك الدولي واحد منهم, بما فرضه على الحكومات التونسية المتعاقبة من شروط وإملاءات في عديد المجالات وخاصة الإقتصادية منها, وسميّت جميعها بالإصلاحات الموجعة, بالإتفاق مع صندوق النقد الدولي, وعلى رأسها مراجعة منظومة الدعم, وتم رفعه عن عديد المواد الأساسية الحياتية التي تعد من واجبات الدولة على أهل البلد. فهل للوكيل والمنفذ لسياساتكم أن يستفيد من شيء في إطار صراع الحكام الحقيقيين؟؟؟ قطعا لا
وعلى ضوء هذه التصريحات يجدر التذكير ببعض ما ورد في المذكّرة الرسمية التي وجهتها هيئة الحقيقة والكرامة قبيل انتهاء مهامها إلى كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي دعتهم فيها للاعتراف والاعتذار للتونسيين وإلغاء الديون غير الشرعية، وذلك بعد ثبوت مسؤولية هاتين المؤسستين الدوليتين في ارتكاب انتهاكات على مر عقود، وتحديدًا انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ضد الشعب التونسي وفق ما انتهت إليه تحريّات الهيئة. ودعتهم لاتخاذ التدابير الضرورية لجبر ضرر الضحايا، أفرادًا أو جماعات وجهات مهمّشة، وكل التونسيين، التي تمثلهم الدولة التونسية.
حيث أشارت المذكرة إلى مراحل التدخل في السياسة الاقتصادية للبلاد عندما قام البنك الدولي بأول مهمة له في تونس سنة 1959. حين “نصح” الحكومة التونسية، وقتها، بضرورة فك ارتباطها بقطاع الإنتاج وتخفيف الرقابة العمومية على الأنشطة الاقتصادية بالإضافة إلى تشجيعها على التوجه للاقتراض الخارجي لتمويل نموّها في حين أن نسبة الدين آنذاك تجاوزت 37 في المائة. وكيف تحوّل في الستينيات والسبعينيات من “مساعد سرّي” إلى “إملاء سياسته” على الحكومة التونسية والتدخل المباشر في خياراتها الاقتصادية. وقد وافق في سبتمبر 1986 على منح قرضين قطاعيين للفلاحة والصّناعة بقيمة 150 مليون دينار لكلّ منهما شريطة أن تلتزم الحكومة بعدم دعم المدخلات الفلاحية وخوصصة أكثر من نصف المؤسسات العمومية البالغ عددها 560 مؤسسة.
كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن البنك الدولي نفسه اعترف في تقرير صادر في ماي 2014 حول الحوكمة في المؤسسات العمومية، بأنه حصلت موجة من الخوصصة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بسبب ضعف الأداء وارتفاع كلفة التشغيل ومتطلبات خطة التكييف الهيكلي الذي فرضته على الحكومة آنذاك.
وعودا على بدأ, نقول للنافخين في كير الحكومة المكسور: إن الاستفادة الوحيدة من الوضعية الدولية اليوم هي الإستقلال بما نملك من أرض وثروة وفكر, وأن نقطع حبل الكذب الذي أهدرتم به مقدرات البلد لعقود طويلة, فلتكونوا رجالا بحق ولتدعوا لاستبدال هذا النظام السياسي الذي مهّد كل السبل لافتكاك البلاد من أهلها وتركها في وضع التسوّل والتودّد لمن لا يرقب فينا إلّا ولا ذمة.
طالبوا بنظام حكم رشيد نابع من وجدان أهل تونس ودينهم القويم, يجعل الثروات ملكا عاما للمسلمين, لا ملكَ يمين للناهبين الغربيين.. ويطلق أيدي أهل البلاد وقادتها وكفاءاتها.. المخلصين لله للتصرف في مقدراتها دونما وصاية.
وبدل أن تدفعوا الحكومة نحوَ إمضاء عقود خام بالأسعار الحالية طالبوها بالخروج من مربّع الإرتهان والكفّ عن خدمة مصالح المستعمر الذي يسيّر كل كبيرة وصغيرة في تونس عبر بنوكه الدولية المهيمنة وسفاراته التي تنشط وتخطط عمل الوزارات وهياكلها بشكل علني مهين, والذي لن تفوته فكرة استغلال الوضع حتى يترك لحكام رهائن أن يتصرفوا من تلقاء أنفسهم, ولكُم أن تسألوا جميع وزراء الطاقة والمناجم عن طاقة تخزين المحروقات في تونس كم تبلغ وهل حقّا نملك مخازن قادرة على الإستفادة من انهيار الأسعار, أم أنهم (وزراء الهانة) تركوا مجال تشييد المخازن لأصحاب الشركات التي تسلّمت الأرض وما عليها, وتعهّدوا بعدم التفكير مجرّد التفكير في أمر كهذا كي لا يغضب أمراء النهب وغُزاة الصحراء الغربيين الممكّنون بالغصب.
وهو ما يؤكده تصريح مستشار وزير الطاقة المكلف بملف المحروقات المهندس حامد الماطري حول غياب استراتيجية لتخزين النفط في تونس، حيث دعا إلى مراجعة منظومة تكرير النفط وتخزينه خلال مداخلة له عبر إذاعة موزاييك يوم الخميس 16 أفريل الجاري.. فأنّى يكون ذلك وأشباه الحكام لا يملكون أمرهم، ولا يفقهون أكثر من تنفيذ ما يُطلب منهم، إذ لم يقدروا سوى على إيصال الأنابيب إلى ميناء الصخيرة البترولي ووضع مصفاة لتكرير النفط في هذا الميناء على مقاس ما طلبه أسيادهم وبأعلى مستويات الجودة المطلوبة عالميا.
فلا تطلبوا من الرهائن والمحكومين انجاز أعمال الحكام المخلصين.