اهتراء البنية التحتية في تونس إيذان بانهيار دولة الاستعمار

اهتراء البنية التحتية في تونس إيذان بانهيار دولة الاستعمار

إن الدولة التي تفشل في القيام بأعباء شعبها وتعجز عن توفير أساسيات العيش له ليست جديرة بالمحافظة عليها وتواصلها بل على الشعب أن يبحث له عن منوال دولة تحقق له طموحاته وتقوم بأعباء سلطانه.

فالفراغ الذي تخشاه الشعوب لتسببه في الفوضى والانفلات ليس المصير المحتوم الوحيد لشعب يرفض إخفاقات دولته المتتالية, لكن بإمكان هذا الشعب أن يقيم سلطانا جديدا وفق منظور يتبناه بعد نقاش فكري سياسي حضاري داخله حول الدولة التي يريد, فيترفٌّع حينها على حصر مشاكل الدولة في شخص الحاكم فيختار الدولة ثم يختار من يحكمها.

نقدم بهذه الفكرة لنتساءل أولا إلى متى سيبقى شعب تونس يتحمل خور هذه الدولة التي تحكمه, حتى بات يخاف من كمية أمطار عادية تنزل أضعافها في دول أخرى فلا تهدد سلامة الناس ولا مصالحهم. بينما ينتج عنها في بلادنا كوارث نقتصر على ذكر حادثة فقدان روح فتاة صغيرة كان يكفي ان تجد جسرا بسيطا فوق ممر الوادي الذي يفصل بين منزلها ومدرستها لتعود سالمة لبيتها لكن تضطر لتعبر مجرى الوادي فتجرفها المياه .

نتساءل ثانيا عن قدرة هذه الدولة على بناء بنية تحتية تليق بهذا الشعب وانتمائه لخير أمة أخرجت للناس, لا نقول في مستوى أمريكا التي اعتبر ترامب أن بنيتها التحتية أصبحت متهرئة تليق بدول العالم الثالث, أو الصين التي تمد بنيتها التحتية لكل العالم خاصة ضمن مشروع” الحزام والطريق” أو” طريق الحرير القديم” الذي يشمل بناء مرافئ وطرقات وسككا حديدية ومناطق صناعية لتسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية بما في ذلك آسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطي. لا نقول في هذا المستوى, بل في مستوى أعلى يجمع بين خير التقدم التكنولوجي والعلمي وخير نظام الحق في دولة الإسلام العظيمة.

نتساءل أخيرا, بما أن هذه الدولة عجزت وتعطلت ولا أمل في صلاحها ما هي الدولة التي يمكن للشعب أن يبنيها لينعم بثرواته وعمقه الإسلامي والجغرافي؟

إن البنية التحتية هي مجموع المنشآت والمرافق المترابطة اللازمة لسير حياة الناس لتحسينها باستمرار وهي تشمل الطرقات والجسور وموارد المياه والصرف الصحي والشبكات الكهربائية والاتصالات عن بعد, وتشمل كذلك المطارات والمدارس والمستشفيات والسكك الحديدية وغيرها, وتعكس وضعية البنية التحتية قدرة الدولة على تقديم الخدمات ومستوى تقدمها. فهي تمكن المجتمع من تحقيق أساسيات العيش في ميادين النقل والصحة والتعليم ونقل البضائع وحفظ الأمن الداخلي والخارجي ولا يمكن تطوير هذه الخدمات إلا ببنية تحتية تراعي أفق هذا التطوير. ولا يمكن تأهيل البنية التحتية لهذه الوظائف وتطويرها إلا بموارد مالية هائلة وقدرة صناعية عالية وتخطيط اقتصادي رفيع.

وإذا نظرنا إلى ما تعاني منه بلادنا في سائر هذه المجالات نجد أن بنية الدولة التحتية مازال الكثير منها من زمن الاستعمار, والمستحدث عشش في انجازه فساد المسؤولين في الحكم والإدارة ويموّل عموما بقروض من البنك الإفريقي للتنمية أو غيره من البنوك العالمية الناهبة. وأغلب ما تستعمله الدولة في هذه البنية التحتية من أدوات صناعية أو خبرات علمية أو برامج إلكترونية او غيرها مستورد بالعملة الصعبة وضمن صفقات يشوبها الغموض والفساد. ومهما رصد لها من ميزانية فلن تكفي حتى لصيانة الموجود فما بالك بمجاراة النمو في الأساطيل المستعملة في النقل مثلا ومجاراة التقدم العلمي والتكنلوجي في العالم أو الصمود في حالة الكوارث.

أما المنوال الاقتصادي ومكانة الصناعة فيه فما زلنا نحافظ على منوال استعماري يجعل السياحة من أهم العناصر الاقتصادية ويخنق الفلاحة حتى نبقى في أمننا الغذائي وبذور منتوجاتنا الفلاحية وسبل تسويقها خاضعين للاتحاد الأوربي واملاءاته كاتفاقية “الأليكا”, ولا يمكّننا في المجال الصناعي إلا من بعض الصناعات التحويلية أو التركيبية التي تجعل صناعتنا وصمة عار في جباه كل السياسيين الذين مروا على هذه البلاد وهم يتخبطون في مشاكل التشغيل والعملة الصعبة وعجز الميزان التجاري ولو أنهم أقاموا مشروعا صناعيا واحدا في مجال الصناعة الثقيلة لحلٌّوا كل هذه المشاكل .لكن أنٌّى لهم ذلك, وهم ممنوعون من طرف الاستعمار الذي يبقي على تبعيتهم وعمالتهم له بمواثيق واتفاقيات مخجلة تجعل عقولنا الذكية عوض أن تجد في بلادنا المصانع والمخابر تضطر إلى الهجرة لينتفع بها الاستعمار ونخسرها نحن.

أما التخطيط الاقتصادي فحكامنا يسيّرون اقتصادنا وفق خطط الاستعمار بما يمليه صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي, ويكفيهم الاجتهاد في التطبيق مع ما يصل إلى جيوبهم من مكافأة على عمالتهم فيدخلون لمجال الحكم خماصا ويصبحون بسرعة بطانا, تجدهم قد تغلغلوا في أوساط المال والأعمال وبالأمس القريب كانوا من الأوساط الشعبية.

فهل بهذه الحال يمكن لشعب تونس أن يأمل إصلاحا في بنيته التحتية أو في ما يبنى عليها من سياسات أمن وتعليم وصحة ونقل…, وهل بتشتت دم طفلة فرنانة بين وزارة التجهيز ووزارة الفلاحة ووزارة التعليم وديوان التطهير والبلدية والولاية ولجنة مجابهة الكوارث الطبيعية قد تنصلت هذه الدولة من جرائمها في اهتراء البنية التحتية ومسؤوليتها تجاه الأضرار المادية والبشرية الناتجة عن هذا الاهتراء.

إن موقفنا هذا من هذه الدولة التي بناها الاستعمار وضمن تبعيتها له والقطع بوجوب تغييرها وإقامة دولة أخرى ليس موقفا يائسا ولا عدميا. فعلا لا بد من اليأس من أن يعطي الدبور عسلا, فهذه الدولة منذ أنشأها الاستعمار حين خرج بجنوده من تونس وترك عميله بورقيبة وحزبه الدستوري ليمنعوها من العودة إلى حاضرتها الإسلامية بحدود سايكس بيكو الوطنية, وأن يكون نظام الحكم فيها خلافة إسلامية بفرض نظام الغرب الجمهوري الديمقراطي عليها, وأن تعود إلى كتاب الله وسنة رسوله (ص) بتمرير التشريع الوضعي الكافر, وأن تستقل فعلا عن فرنسا والغرب الصليبي بوثيقة استقلال تجعلنا نهبا وعبيدا لسياساتهم الاستعمارية, منذ أنشئت لم ترقب فينا كشعب مسلم إلاٌّ ولا ذمة وسواء مع بورقيبة أو بن علي أو حكام ما بعد الثورة فإنها ولغت في دمائنا وديننا وثرواتنا. وهؤلاء الحكام جميعهم أقرب إلى أعدائنا منا, بل هم عبيد لهم وإن صلٌّوا وصاموا وزعموا التقوى وهم يقسمون على كتاب الله حين توليهم المسؤولية. فهذه الدولة “دولة الاستعمار” هي المشكل الأساسي والحكام العاجزون على حل مشاكل الشعب هم المشكل المتفرع عنه, ولولاها لما جاز لهؤلاء الرويبضات العملاء أن يعتلوا منصب الأمانة على الناس وعلى دينهم وثرواتهم ومصالحهم.

من جهة ثانية ليس موقفنا عدميا يدعو إلى الفراغ والفوضى والاضطراب ,بل نحن دعاة إلى دولة أصّلناها وفصّلناها وشعبنا واع على عموم أصولها ويشاركنا الرغبة في العيش في خلافة كخلافة أبي بكر وعمر. وقد أدرك الاستعمار هذا الشعور وهذا الوعي عند شعوب الأمة الإسلامية فبعد محاولته الفاشلة تشويه تاريخها الزاخر بالقوة والريادة والعدل والانسانية ,أراد أن يصنع للخلافة نموذجا فاشلا ومعيبا, لكن الأمة وإن حسمت في هذا النموذج المزيف مازالت ترنو إلى خلافة راشدة كخلافة أبي بكر وعمر, وإن لم يدرك حكام المسلمين حقيقة هذه الدولة لأن الثقافة الغربية الصليبية قد سكنت أذهانهم وقلوبهم فشوهت تاريخها لديهم وجعلتهم يحاربون وحدة المسلمين والحكم بما أنزل الله فإن أسيادهم الغربيين يرونها ماثلة أمام أعينهم لا تنتظر إلا نصرة من أهل قوة مؤمنين ويعلمون من خلال تنقيبهم في تاريخنا وحضارتنا أن الدولة التي حفرت خليج أمير المؤمنين بين مصر ومكة في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب وأنشأت الخانات والفنادق ودور الضيافة للحجاج والمسافرين وبنت المدن الجديدة مثل مدينة القيروان في عهد معاوية ابن أبي سفيان ومدينة تونس التي بناها حسان ابن النعمان في خلافة عبد الملك ابن مروان على أنقاض مدينة رومانية قديمة وبنى فيها دارا لصناعة السفن ومدت خط حديد الحجاز بين دمشق والمدينة المنورة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وخلال عمل الخط تم انشاء ألفي جسر مختلفة الأحجام ,يعلم حكام الغرب أن الخلافة الإسلامية حين تعود ستكون قادرة على إقامة أعظم بنية تحتية تضمن للمسلمين أرقى أنواع الخدمات وتمكن الدولة من خلال هذه البنية أن تحمل الدعوة الإسلامية  لكل العالم.

حينها ستنقذ الخلافة المسلمين في بلاد الإسلام من التخلف والتبعية وتنقذ الشعوب الكافرة من ضلال الرأسمالية أو الاشتراكية وتؤسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان بعد أن كان مبنيا على شفى جرف هار.

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىشَفَا جُرُفٍ هَارٍ”​

أستاذ سعيد خشارم

CATEGORIES
TAGS
Share This