برلمان جديد لنظام قديم, فأين شرع الله العظيم؟

برلمان جديد لنظام قديم, فأين شرع الله العظيم؟

على وقع خوض “حرب التحرير الوطنيّ” التي أطلقها رئيس الدّولة ووصفها وزير الداخليّة بأنّها حرب ضروس، عقد البرلمان الجديد أولى جلساته يوم الإثنين 13/02/2023. ولم تخيّب نتائج الانتخابات التي جرت في ذلك اليوم ما روّجت له وسائل الإعلام التي قاد من خلالها السيّد إبراهيم بودربالة حملته الانتخابيّة، (وهو المعروف طيلة هذه الفترة بولائه المطلق لمسار 25 جويلية) ليتمّ تنصيبه رئيسا للبرلمان كما كان متوقّعا، وهكذا صار للرّئيس حكومة ودستور وبرلمان على المقاس، ولدت جميعها من رحم الإجراءات الاستثنائيّة. ومع ذلك، يتواصل العمل بقانون الطّوارئ الذي يتربّص بكلّ معارض لهذا المسار المفروض على تونس، تحت شعار “الحرب على الفساد”، ليتيح للقضاء استعمال قانون “الإرهاب” ضدّ خصوم السّياسة ريثما تلملم “الدّولة” شتاتها وتستعيد قبضتها وهيبتها.

ربّما حريّ بنا أن نتذكّر سويّا، كيف انطلقت “العشريّة السّوداء” بشعارات التدرّج في تطبيق الشّريعة والقسم بربّ الوجود أنّ التجمّع لن يعود، ثمّ تحت غطاء محاربة الفساد، تمّت معانقة رموزه والمصالحة الجزائيّة مع مموّليه والتّوافق معهم تحت سقف النّظام الجمهوريّ العلمانيّ، بل تمّ التخلّي عن الإسلام في الحكم والتّشريع إرضاء للسّفارات الأجنبيّة والقوى الاستعماريّة، لتخسر جميع الأحزاب رصيدها الشعبيّ، وينكشف أمر دعاة الدّجل الدينيّ والدّجل السياسيّ في آن واحد. فهل من توبة..؟؟

اليوم، انطلق قطار العشريّة “الورديّة” المزعومة بنفس المقدّمات ركوبا على نفس الثّورة، حيث جاء من أقصى المدينة رجل يسعى، يزعم أنّ قدوته الفاروق عمر رضي الله عنه، فظلّ يلتقط الصّور بين المساجد قياما وقعودا حتّى في فترة الكورونا، وظلّ يتوعّد في كلّ خطاب رموز الفساد والإفساد ليحتكر الطّهر والصّلاح، ثمّ ينسب تعثّره في الإنجاز الاقتصاديّ إلى حكّام العهد السّابق، تماما مثلما كان يفعل رموز “العشريّة السّوداء”، يُضاف إلى ذلك استعمال فرية فشل الإسلام السياسيّ.

ومع ذلك يغمض البعض أعينهم عن حقيقة ارتمائه في أحضان فرنسا، وتغييبه للإسلام في الدّستور كأساس للحكم ومصدر للتّشريع، ظنّا منهم أنّهم على موعد مع ثورة تكنولوجيّة وإدارة رقميّة ومدن ذكيّة ودولة قويّة. في الأثناء، يمرّ فريقه على عجل إلى رسكلة برلمان فسيفسائيّ غير متجانس، ليقول أمام أسياده إنّ للدّولة المتهاوية مؤسّسات، وإنّ للديمقراطيّة مخالب وأنياب. وكلّها مراوحات لمسار سياسيّ فاشل، تبرّأ منه القريب قبل البعيد، لأنّ هذا التخبّط والعبث السياسيّ الجنونيّ لا ينبئ إلاّ بقرب سقوط الرأسماليّة في بلاد الإسلام.

الملفت للانتباه يوم تنصيب البرلمان، ليس تغييب وسائل الإعلام الخاصّ عن ذلك، فهذا يُكسب الرّئيس مصداقيّة عند أتباعه ممّن يستهويهم خطاب التّخوين الجماعيّ، ولكن سرعة استجابة الأجهزة الأمنيّة إلى طلب مجموعة من نوّاب “نداء تونس” بمنع دخول الإعلام الخاصّ على حد قول بعضهم..فهل سيتنصّل وزير الداخليّة من مسؤوليّة إعطاء التّعليمات..؟؟

طبعا، بعض النوّاب الجدد من برلمان “المسار التّصحيحيّ” جادّون في التّغيير، ولكنّهم لم يدركوا بعد أنّ عددا من زملائهم هم تجمّعيّون سابقون وندائيّون سابقون فضلا عن بعض مناصريّ نظام البراميل المتفجّرة الذين لم يجمعهم برنامج قيس سعيّد وعلوّه الشّاهق على فرضيّة وجود برنامج، بقدر ما جمعهم كره الإسلام السياسيّ بجميع أشكاله وألوانه، والأهمّ هو أن يدركوا بأنّ كلّ تغيير على غير أساس الإسلام هو إطالة لعمر الفساد، لأنّه متأتّ أساسا من تشريع البشر الخاضع دائما للأهواء والأموال والجهات النّافذة.

ومن عجائب صدف التّصويت على الأفراد، أن نجد نوّاب نداء تونس مجدّدا في برلمان قيس سعيّد بعد أن كانوا يجالسون يوسف الشّاهد وسفيان طوبال ويخوضون معركة الشّقوق، على غرار محمد علي فنيرة، وعماد أولاد جبريل، والنّاصر الشنّوفي، وفاطمة المسدّي، ورياض جعيدان صاحب الجنسية الفرنسيّة والمقرّب من كلّ سفراء فرنسا بلا استثناء. فلمصلحة من سيشرّع هؤلاء..؟؟

بل الأعجب، أنّ من يتزعّم حراك 25 جويلية داخل هذا البرلمان، هو تجمّعي ابن شعبة دوّار هيشر في منّوبة، لنجده اليوم متصدّرا لمسار محاسبة قيادات اتّحاد الشّغل، فعن أيّ محاسبة يتحدّث هؤلاء..؟؟ أوليس واضحا للعقلاء أنّ حلّ المجالس البلديّة أيّاما قبل انتهاء مدّة الخمس سنوات هو إعفاء لجميعهم من المحاسبة..؟؟

في الأثناء، يحاول البعض إقناع أنفسهم عبر شاشات الإعلام بنبرة ينقصها الكثير من الثّقة في النّفس، بأنّ هذا البرلمان سيّد نفسه، وأنّه مجلس نوّاب الشّعب، وليس مجلس نوّاب الرّئيس، ثمّ يعودون فورا لمساندة كلّ ما صدر ويصدر عن الرّئيس، مستلهمين كلامهم ولغتهم الخشبيّة من أبجديّات العهد البنفسجيّ.

إنّ القضيّة ليست قضية أشخاص، إنّما هي قضيّة نظام فاسد لا يجلب إليه إلاّ من هم من جنسه (وبعض المغرّر بهم)، وإن تغيّرت بعض الوجوه، ولذلك لم يخطئ حزب التّحرير حين قالها بوضوح قُبَيْل الانتخابات الرئاسيّة أنّ قيس سعيّد ليس سوى الوجه المزيّن للنّظام.

اليوم، نرى سفراء الدّول الاستعماريّة وهم يصولون ويجولون، بدءا من وزارات السّيادة، ومرورا بوزارات الطّاقة والصّناعة والفلاحة، ووصولا إلى وزارات التّعليم والثّقافة، وكلّ الزّيارات تصبّ في سياق واحد، هو مباشرة الغزو الفكريّ والحضاريّ والهيمنة السياسيّة للاستعمار على بلاد الإسلام، فأين الرّئيس ووزراء الدّفاع والداخليّة من هذه الحرب الحضاريّة..؟؟ أم أنّ حربهم تقتصر على طيف معيّن من الوسط السياسيّ السّابق، بما ينهي رمزيّة الثّورة التي كادت تلتحم بالأمّة..؟؟

إنّ جعجعة الخطابات الشعبويّة قد تخدّر الأتباع والأشياع، وقد تسرق أحلام الغافلين، ولكن من يجعل العقيدة أساسا لتفكيره والحكم الشرعيّ مقياسا لأعماله، لا يمكن أن يلدغ من جحر الانتخابات الديمقراطيّة ولا أن يكون ضحيّة لقادة الدّجل الدينيّ أو الدّجل السياسيّ. ولذلك فإنّنا سنظلّ نحذّر النّاس من النّظام الجمهوريّ العلمانيّ بوجهيه الرئاسيّ والبرلمانيّ، ومن جريمة الحكم بغير ما أنزل الله وإثمه العظيم.

إنّه من تمام نعمة الله على عباده أن أرسل إلينا محمّدا عليه الصّلاة والسّلام هاديا ومبشّرا بشرع يحمينا من تقلّب أهوائنا وتسلّط قوِيّنا على ضعِيفنا فقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فمِن نِعم الله علينا أن جعل التّشريع له وحده فليس للمسلم حاكما أو محكوما أن يسير وفق هواه أو يخضع لمخلوق بل هو يسير وفق أوامر الله ونواهيه يقول الله تعالى(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

ففي دولة الإسلام، الأفراد والجماعة يخضعون لأحكام الله خالقهم ومدبّر أمرهم،(ألا له الخلق والأمر) وليس للأمّة ولا للخليفة حقّ التّشريع، فالمشرّع هو الله سبحانه وتعالى (إن الحكم إلاّ لله أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ذلك الدّين القيّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون).

هذا هو الحقّ الذي قامت عليه الأدلّة القاطعة، وهذا وحده الذي يضمن ألاّ يستعبد القويّ الضّعيف، فبشرع الله وحده يتساوى النّاس. وبإبعاد التّشريع عن هوى الإنسان ضمن لنا الإسلام ألاّ يستعبد البشر بعضهم بعضا بل الكلّ يخضع لشرع الله ووحيه الذي أوحاه إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

بهذه المعادلة الربّانيّة فقط، يتحقّق العدل ويصبح القانون فوق الجميع، وبدونها يشيع الظّلم وتتكاثر مجالس التّشريع من دون الله، وينتشر الفساد في الأرض وسط ضجيج الخطب العصماء والشّعارات الجوفاء.

CATEGORIES
Share This