حدّث أبو ذرّ التّونسي قال: ممّا لا شكّ فيه أنّ الصّراع الذي يُخاض هذه الأيّام في تونس هو صراع بين الحقّ مُمثّلاً في الإسلام السياسي، والباطل مُمثّلاً في الرأسمالية الاستعماريّة بنزعتها اللّبرالية المتوحّشة…وهو صراع لا مُتكافئ بشكل مُشطّ، طرفه الأوّل عبارة عن شتات أفكار باهتة لبقايا عقيدة يحملها أفراد ليس لهم كيان سياسي تنفيذي يجمعهم، أمّا طرفه الثاني فيتجسّد في دول مبدئيّة وقوى عُظمى استعماريّة متنفّذة خصخصت العالم واتّفقت على تقاسم خيراته…ورغم هذا الاختلال الحادّ في موازين القوى الماديّة، إلاّ أنّ الكافر المستعمر يعلم يقينًا أنّه لو غفل عن هذا الصّراع وتركه يُخاض على عواهنه بشكل طبيعي فإنّ الغلبة ستكون لا محالة للإسلام والمسلمين رغم الضّعف والتشتّت والضّبابيّة والارتهان وغياب الدّولة الإسلاميّة…لذلك ودرْءًا للمفاجآت غير السارّة تولّى الاستعمار إدارة هذا الصّراع بنفسه وبأعيُنه ووحيه: فأقصى الإسلام السّياسي من الحلبة نهائيًّا ومنعه أن يكون طرَفًا فيه، ولم يكفه ذلك بل انتحل صفته وفصّل إسلامًا على مقاسه وظّفه لتضليل الشّعب المسلم واستدرار عطفه وتمرير مشاريعه المحاربة لله ورسوله…ثمّ جمع كيده الدّيمقراطي الحداثي وصاغَهُ في أكثر من 200 حزب أثّث بها الوسط السّياسي التّونسي تعويمًا للجريمة وإيهامًّا بالتعدّدية…فإذا بنا إزاء حوار ذاتي (مونولوق) بين تمظهرات فكرة واحدة (فصل الدّين عن الحياة) تفنّن الكافر المستعمر في إلباسها العديد من الأثواب حسب المقاس والطّلب ومقتضيات الواقع ومتطلّبات الصّراع (حداثيّة ـ عروبيّة ـ إسلاميّة ـ اشتراكيّة ـ وطنيّة ـ شيوعيّة…) تختلف شكليًّا في الزيّ والمظهر وتتّفق جوهريًّا في المخبر والدّور: محاربة الله ورسوله وخدمة الاستعمار..
مشروع توريث
ولأنّ الكافر المستعمر يعلم جيّدًا أنّ الشّعب التّونسي المسلم الأبيّ لا يقبل إلاّ الإسلام وما يُنسب إليه فقد استعمل حركة النّهضة (قفّاز القابلة) الذي وُلدت على يديه كلّ المشاريع القذرة المستهدفة للبلاد والعباد ـ عقيدةً وثقافةً ومقدّرات ـ من الدّستور المسموم إلى إعادة التجمّع للسّلطة مرورًا بتجديد عقود النّهب الاستعماريّة…ولأنّه يعلم جيّدًا أيضًا أنّ بقيّة (الطّيف الحداثي) ـ مُشتَّتًا مُنقسِمًا أو مُجتمعًا متكتّلاً ـ أوهن من بيت العنكبوت وغير قادر على حكم أحفاد العبادلة السّبعة بمفرده، فقد صاغه في شكل (كوكتال سياسي) تحت مسمّى نداء تونس وفرض عليه التّوافق مع حركة النّهضة بوصفها صمّام الأمان عساه يصمد في مقاليد الحكم ويُنجز مهامّ الاستعمار بالوكالة…ورغم الثّمن الباهظ الذي دُفع لتحقيق زواج المتعة بين الشيخين (التّضحية بشكري بلعيد والبراهمي والزجّ بالبلاد في دوّامة الإرهاب الدّمويّة)، إلاّ أنّ البجبوج المتخرّج من مدرسة بورقيبة في الدّيكتاتوريّة النّاعمة خيّب آمال بريطانيا: فقد أجرى تحويرًا على مصطلح (ديموكراسي) بما حوّله إلى (ديما كراسي) وأصرّ إلحاحًا على خصخصة كرسي السّلطة وتأبيد القيادة والحكم في (آل السّبسي)…إذ لم يكتف بالفوز برئاسيّة 2014 بل عمل جاهدًا على توريث ابنه حافظ قيادة النّداء وإعدادهِ لخلافته في الرّئاسة وحصر حكم (بيليك تونس) في سلالة السّبسي وآله وصحبه…هذا السّلوك الغريزي المحكوم بمنطق بدائي قبلي عروشي ما كان له أن يُقبل لا داخل النّداء ولا صُلب الوسط السّياسي، فانخرط الحزب الحاكم منذ سنة 2014 في حلقة مفرغة من الصّراعات على المناصب والنّفوذ بين شقّ السّبسي الابن والشقّ الرّافض للتّوريث تردّى على إثرها في دوّامة من الانشقاقات والاستقالات أضعفته وأفرغته من (مناضليه)…وسرعان ما توسّع ذلك الصّراع ليصبح بين الرّئاسة والحكومة ويزجّ بالدّولة وشعبها في زقاق مظلم من المآزق والأزمات تصدّع على إثره التّوافق وقُبِر وتفاقمت الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة ووُظّف الشّعب كأدوات رخيصة لتسديد فاتورة شهوة الحكم الأنانيّة المقيتة…
خلط الأوراق
والأخطر من كلّ ذلك أنّ هذا الصّراع البيزنطي بين جناحي الحكم ـ الرّئاسة والحكومة ـ قد أفرز أجواء من الهشاشة السياسيّة أجّجت الصّراع الدّولي على تونس وأغرت أمريكا وفرنسا بالصّيد في المياه التّونسية العكرة بما يهدّد مصالح بريطانيا صاحبة الامتياز الأولى في البلاد بشكل جدّي لاسيما مع اعتزامها الخروج من الاتّحاد الأوروبي…وقد انعكس ذلك بالضّرورة على تركيبة الوسط السياسي وموازين القوى فيه، وأدّى حتمًا إلى اختلالها بشكل يُعيد خلط الأوراق السياسيّة ويحوّر الخارطة الحزبيّة تحويرًا جذريّا…فالوسط السياسي محكوم ببراقماتيّة متوحّشة وبمكيافليّة باردة متخشّبة يمثّل فيها السّياسيّون والمواقف السياسيّة ـ بالكاد ـ مجرّد أوراق تُلعب إن كانت رابحة، وتُحرق إن كانت خاسرة دون رحمة أو أسف…ولن يكون السّبسي والغنّوشي وغيرهما أعزّ على بريطانيا من القذّافي وصدّام حسين رأسي القاطرة البريطانيّة في شمال إفريقيا والشّرق الأوسط حيث تخلّت عنهما بريطانيا وضحّت بهما من أجل بقاء موطئ قدم لها في كلّ من العراق وليبيا…والمنطق نفسه يسري على الأدوات المحليّة: فهي في حرب تموقعات سياسيّة وبرلمانيّة داخل الهامش والخط العريض الذي تفرضه وتتحكّم فيه القوى المتصارعة، تتنافس فيما بينها خدمة للسيّد الغربي ورغبةً في نيل الحُظوة عنده شعارها في ذلك (رجاء استعملنا ولا تستبدلنا)…
سياحة حزبيّة
على هذا الأساس ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعيّة والرّئاسية 2019 شهد الوسط السياسي في تونس حركيّة وتجاذبات حادّة ما فتئ نسقها يرتفع بما يشي بنيّة مُبيّتة لإعادة هيكلته جذريًّا حتّى لا يخرج عن السّيطرة درءًا للمفاجآت وتحسُّبًا للطّوارئ…ففي ظلّ فشل حزب الهراوات والشّقوق الذريع وعجزه عن إدارة المرحلة وتآكله وانحلاله، دقّت بريطانيا ناقوس الخطر وسعت إلى تلافي وضع الهشاشة السياسيّة التي قد يتسلّل عبرها المنافسون…فانخرطت في حملة لإعادة تركيب وسطها السّياسي في تونس بما يحمي مصالحها ونفوذها ويدرأ عنها شرّ الاختراقات ويُبقي البلاد والعباد والمقدّرات في قبضتها، وذلك عبر رصّ الصّفوف ورأب الصّدوع وسدّ النّقائص وإيجاد البدائل معتمدة على رجالاتها المخلصين المبثوثين في تلافيف الأحزاب تُرَسكل الصّالح منهم وتُعيد تدويره وتضخّه دماءً بريطانيّة حارّة وفق توزيع جديد للأدوار…في هذا الإطار شهدت الأحزاب أعمال تنظيف لفنائها الخلفي وترميم لبيتها الدّاخلي، ونشطت السّياحة الحزبيّة وانفتح شبه (ميركاتو) سياسي للبيع والشّراء والاستقطاب والسّطو والانتقال والتّجوال بين الأحزاب والكتل النيابيّة والمواقف الحزبيّة بمُنتهى الاستهتار وبذمم سياسيّة (أستيكيّة) تُصاغ على المقاس وحسب الطّلب (وكلّ ساعة وعلمها)…
(سوق ودلاّل)
إزاء فشل مشروع التّوريث الذي انخرط فيه السّبسي وتصدّع التّوافق مع النّهضة وانحسار شقّ حافظ في النّداء وفقدانه لخيرة (مناضليه)، ارتمى الباجي في أحضان اليسار الفرنسي وأيتامه في تونس من الزّمرة الفرنكفونيّة بحثًا عن سند ماديٍّ ومعنويّ داخليًّا وخارجيًّا…فانخرط في مغازلة مفتوحة لفرنسا تمثّلت أساسًا في بعثه للجنة الحريّات الفرديّة والمساواة وتسويقه لتقريرها المحارب لله ورسوله ولمقوّمات هويّة الشّعب التّونسي المسلم، وتقديمه لمبادرة المساواة في الميراث التي رام من خلالها استعادة الرّصيد الانتخابي النّسائي الذي دعّمه في انتخابات 2014…كما عمد إلى القيام بانتدابات جديدة تدعيمًا لما بقي من حزبه (برهان بسيّس ـ سمير العبيدي ـ محسن حسن ـ عبد الجليل بن سالم ـ منير بن صالحة ـ ماهر بن ضياء ـ ماجدولين الشارني…) وأعاد بعض (الخراف الشّاردة) إلى حظيرة النّداء مجدّدًا (رضا بالحاج) وابتلع الاتّحاد الوطني (سليم الرّياحي) بحيث انصهر فيه…ولم يتورّع سي الباجي عن استغلال سلطته ونفوذه كرئيس دولة لتمتيع برهان بسيّس بعفو رئاسي وإخراجه من السّجن الذي دخله بشبهة فساد مالي…في المقابل ارتمى يوسف الشّاهد في أحضان بريطانيا والاتّحاد الأوروبي وصندوق النّقد الدّولي وذلك بتسويق نفسه كخادم مطيع ومتفانٍ في الحفاظ على المصالح الغربيّة الاستعماريّة من خلال توقيعه لمشروع اتّفاق التّبادل الحرّ الشّامل والمعمّق (الأليكا) والسّير في الإصلاحات الكبرى وفق إملاءات صندوق النّقد الدّولي…أمّا حركة النّهضة فبعد استقرائها لموازين القوى وتأكُّدها من أنّ السّبسي الأب والابن قد أفلسا ولا مستقبل لهما سياسيًّا عمدت إلى توجيه بوصلتها نحوالقصبة ونزيلها يوسف الشّاهد عوضًا عن المومياء القابعة في قصر قرطاج، كما حوّلت توافقها إليه في صفقة سياسيّة رابحة قبضت ثمنها بسخاء في التحوير الوزاري الأخير حيث تدعّمت تمثيليّتها في الحكومة…
المشهد الأخير
بهذا الشّكل وعلى مشارف انتخابات 2019 نزل السّتار على المشهد السياسي والحزبي في تونس مُسفِرًا عن قطبين ضديدين يتصارعان على شتات نداء تونس والطّيف الدّيمقراطي الحداثي: من جهة شقّ حافظ قائد السّبسي في النّداء الذي انصهر فيه سليم الرّياحي، ويتقاطع معه في المصالح اتّحاد الشّغل وآفاق تونس وبدرجة أقلّ الكتلة الديمقراطيّة والجبهة الشعبيّة…ومن جهة أخرى كتلة الائتلاف الوطني في البرلمان وجزء من القوى الوسطيّة التقدّميّة (مشروع تونس ـ حزب المبادرة ـ منشقّين من النّداء وآفاق تونس)…هذا الشقّ هو الذي راهنت عليه بريطانيا لتستنقذ به النّداء من براثن آل السّبسي وتعيد به الطّيف الدّيمقراطي الحداثي إلى حُضنها وقد دعّمته بحركة النّهضة واتّحاد الصّناعة والتّجارة واتّحاد الفلاّحين وهيئة المحامين وبعض الوجوه التجمّعية (حامد القروي ـ منذر الزنايدي…) وهي تعتزم أن تصوغ منه حزبًا جديدًا يرث رسميًّا النّداء شبه المنحلّ…وقد اعتبر (مصطفى بن أحمد) رئيس كتلة الائتلاف الوطني أنّ هذا الحزب الجديد (مبني على تجربة نداء تونس) وأنّه يتموقع (ضمن الوسط الدّيمقراطي الاجتماعي الحداثي) وأنّه (مع المبادرة الحرّة واقتصاد السّوق ومع بقاء دور الدّولة في الأمور الحياتيّة الأساسيّة مثل الصحّة والكهرباء والماء والنّقل والتّعليم)…بهذا تتّضح ملامح النّسخة الجديدة لنداء تونس التي رسكلتها بريطانيا لإحكام قبضتها على البلاد: خالية من اليسار اليعقوبي الاستئصالي حاضنة للقوى الوسطيّة التقدّمية مطعّمة بفلول التجمّع مسنودةً بالمرجعيّة الإسلاميّة مُغازلةً للاتّحاد الأوروبي (الأليكا) وللعمّ سام (كمال مرجان ـ محسن مرزوق) مستجيبةً لتطلّعات الطّبقات المسحوقة…فهل ستصمد هذه النسخة المنقّحة أمام الصحوة الإسلاميّة في تونس أم أنّ حساب البيدر لن يقابل حساب السّوق..؟؟