بعد أن حوصر أهل تونس بالجوع، بات ممكنا مقايضتهم بالأمن الغذائي
قدر لأهل تونس أن تفرض عليهم، منذ أن ابتُلوا بالدولة الوطنية، سياسات تخضع لهوى السلطان وشطحاته، لتبرير خضوعه للتدخل الخارجي من قبل الدول الاستعمارية، ليذوق الناس جرّاها الويلات. فبتتابع سياسة التعاضد التي اعتمدها بورقيبة و محاولة تجميع الأراضي الفلاحية، وإنشاء المجمعات التجارية، في ستينيات القرن الماضي ثم انتقاله إثر فشل هرطقته وما جرته على الناس من بؤس وعنت إلى تبني سياسة ليبرالية قادها وزيره الأول الهادي نويرة تحت مسمى اقتصاد السوق واعتماده قانون أفريل 1972 بحجة تشجيع تركيز المؤسسات المصدرة، وهي في الحقيقة لم تعدو فتح الأبواب للمستثمر الأجنبي الناهب، تحت إغراء العمالة الرخيصة والإعفاءات الضريبية، ليعقُب تلك السياسة ويدعمها برنامج التأهيل الشامل الذي اعتمده بن علي، حيث جعل الدولة تتخلى عن المسألة الاقتصادية وتفتح الباب عريضا للخصخصة بعد أن أبرم عقد شراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1996 وظل يهيئ الاقتصاد التونسي لذلك طيلة 12 سنة ( 96 19ـ 2008).
وبتمادي سلطة ما بعد الثورة في اعتماد نفس منوال التنمية الذي فرض على البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي في الصناعة والفلاحة، إضافة إلى ما مثلته جائحة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية، في ظل غياب سياسة رشيدة، من أعباء إضافية على الاقتصاد المحلي، لاعتماد البلاد بشكل مفرط على استيراد الغذاء والطاقة، وعدم تأمين الكفاية الذاتية من السلع الإستراتيجية كالحبوب والوقود، وتفريطها في ثرواتها المنجمية للشركات العالمية، الأمر الذي تركها هشة أمام أيّ أزمة خارجية. فبتتابع تلك السياسات العقيمة بل والمدمرة، كان من البديهي أن يؤول الحال في بلادنا إلى ما هي عليه اليوم من فقدان لأهم المتطلبات الحياتية كالزيت والسميد والسكر وأن ترى تلك الطوابير أمام المخابز والمحلات التجارية وما يصحبها من مظاهر خطيرة، مع ما ينمو إلى أسماع الناس من تقارير تشير إلى أن السفن المحملة بالقمح من أوكرانيا تظل على أطراف الموانئ التونسية، ممتنعة عن إفراغ حمولتها لأن الحكومة التونسية لا تستطيع توفير أثمانها، والحال أن موازنتها لسنة 2022، لا زالت مرتهنة بالتعاقد مع صندوق النقد الدولي، بالإصلاحات التي يشترط الصندوق إقرارها.
وأمام هذه الوضعية المهينة التي بات يكتوي بنارها “المواطن” التونسي، والتي جرّتها عليه هذه السياسات الكسيحة المتعاقبة لمختلف النظم منذ عهد بورقيبة إلى اليوم، لا يتحرج وفد عن الاتحاد الأوروبي من حديثه يوم 26/07/2022 عن مبادرة الاتحاد من أجل دعم الغذاء (هكذا) والقدرة على الصمود (وهكذا) في إطار التخفيف من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على تونس، ليتخذ رئيس الدولة قيس سعيد من عبارة الوفد الأوروبي، “مشروع الاستجابة لصمود الأمن الغذائي” عنوانا لإضفاء المشروعية على مصادقته على اتّفاق القرض بين السلطة التونسية والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية وهو القرض المسند لديوان الحبوب بمبلغ قدره مائة وخمسون مليون وخمسمائة ألف أورو للمساهمة في تمويل مشروع الاستجابة لصمود الأمن الغذائي، لتصبح هذه العبارة دليل حكمة وعبقرية سياسية، وبرهانا على حسن الرعاية، فهل أن القبول بالقروض الربوية الاستهلاكية التي تقدمها الجهات الاستعمارية لمزيد تثبيت هيمنتها على الشعوب المقهورة يبرر”احتكار السلطة”؟ وهل هي سبيل لحل أزمة نقص المواد الغذائية، وتوفير الطمأنينة للتونسيين في غذائهم ومعاشهم؟
فإذا كان رئيس الدولة يرى في قرض ربوي استهلاكي من لدن عدو مستعمر، قاعدة للصمود عند الملمات وضامن للأمن الغذائي، وإذا كان تمسّح رئيسة الحكومة على أعتاب سفارات الإجرام العالمي للتدخل لدى هيكل أُعدّ لنحر الشعوب، ليمُنّ علينا بشيء مما نهبه من مقدراتنا لتمويل موازنتنا، فحق التحذير من مشروع “الشركات الأهلية” الذي يقدم على أنه حلّ للفساد الذي أحدثه من سبق في إدارة البلاد، ومرتكز جذري للحلول الاقتصادية، إذا كانت الكنفيدراليّة الألمانيّة للتّعاضديات DGRV. وممثل عن السّفارة الألمانيّة والكنفدرالية الألمانية حول القطاعات الفلاحيّة، وإذا كان أعضاء المجلس إدارة البنك الأوروبي، كل هذه الجهات الاستعمارية وغيرها كثير، تحدد دور وغاية وآلية إدارة هذه الهياكل، خاصة وأن الرقم المخفي في هذه المعادلة هو “التمويل” باعتباره القاسم المشترك بين التعاضديات الإنتاجية، وأنها لا يعوزها إلا الجانب المالي والذي يتوفر لدى المستثمر الأوروبي بحكم المنطق الطبيعي للأشياء وأنه جاهز للتنازل والقبول بهذا العبء. فإننا نحذر مما يُعدُّ لأرضنا، تحت غطاء تعمد إهمال مؤسساتنا والدفع بها نحو الإفلاس المتعمد، وإثارة الضوضاء بأن الحل في الشراكة مع “أهل الخبرة والتجربة”.
فليعلم العالم أننا لسنا قصّرا غير رشّد، وغنانا لا يطالُهُ أحد، وغنانا في ثروتنا الفكرية وعمق ثقافتنا وشموليتها.
CATEGORIES كلمة العدد