بعد تعمّد إغراق قارب المهاجرين شباب تونس يُقتل مرتين
تواترت الروايات وتعددت الشهادات المفزعة حول مسؤولية خافرة الحرس البحري التونسي عن انقلاب وغرق قارب المهاجرين المتّجه سواحل جزيرة “لامبادوزا” الايطالية. الصدمة كانت قوية ومشهد الجثث المتناثرة كان فضيعا ولوعة الأهالي وحرقتهم على أبنائهم كانت مهولة، وأمام انتشار الخبر “الفضيحة” في وسائل الإعلام المحلية والعالمية سارعت السلطات الأمنية والعسكرية إلى التشكيك في روايات الناجين ثم الإعلان عن فتح تحقيق في الحادثة.
لسنا هنا في موضع التحقيق في صحة الرواية الرسمية من عدمها ولكننا بصدد قراءة ما حدث في إطار التعامل الإقليمي والدولي مع موضوع الهجرة السرية بين ضفتي البحر المتوسط.
فمن المعلوم أن الهجرة السرية من السواحل الليبية والتونسية نحو أوروبا وتحديدا ايطاليا كانت موجودة قبل “ثورات الربيع العربي” ولكنها ازدادت كثافة بعده على نحو خارج عن السيطرة، وقد فشلت دول الاتحاد الأوروبي في إيجاد صيغة سياسية جماعية لتحمل أعباء المهاجرين بأعدادهم المتزايدة، وبرزت الطبيعة الأنانية والفردية لكل دولة من دوله في تناول هذا الموضوع على نحو أوجد أزمة بين ايطاليا وبقية دول أوروبا، وهو ما حدا بايطاليا بالاعتماد على قواتها البحرية العسكرية في القيام بدوريات بالقرب من السواحل الليبية وإلى إيجاد تفاهمات إقليمية خاصة. هذه التفاهمات عبرت عنها سياسة ايطالية جديدة اعتمدت على إغراق قوارب المهاجرين بمجرد انطلاقها من السواحل. وقد وثقت “المنظمة العالمية للهجرة” شهادات عديدة لناجين يؤكدون أن سفنهم يتمّ استهدافها وإغراقها عمدا من قبل قوارب تملكها عصابات معروفة في ليبيا متخصصة في التهريب وهي مرتبطة بأجهزة استخبارات دولية. هذه العصابات جنت أرباحا طائلة من استلام ثمن الرحلة إلى أوروبا من المهاجرين، ثم استلام بوليصة التامين بعد إغراق المراكب في البحر.
هذه هي نتيجة السياسة الايطالية الجديدة مع دول جنوب المتوسط، وبما أنه لا توجد دولة قائمة في ليبيا فان التفاهمات الايطالية تمت مع المليشيات الليبية المسلحة اللاهثة وراء الدعم السياسي والمادي. أما في تونس فان التعاون في مجال مكافحة الهجرة السرية يتم على مستوى المسئولين الحكوميين حيث يحتل هذا الموضوع مكان الصدارة في كل الزيارات التي يقوم بها مسئولون أوروبيون وخصوصا الايطاليون إلى تونس، ولا يجد المسئولون المحليون الحرج في طلب الدعم المادي والتقني مقابل هذا “التعاون” – متعذرين بقلة الإمكانيات-، وهو ما لم يبخل به الجانب الايطالي الذي يعلم قطعا أن لكل خدمة ثمن.
فهل ما يحصل لشباب تونس من القوات الأمنية البحرية هو نفس ما يحصل للمهاجرين الأفارقة من المليشيات المسلحة الليبية من إغراق متعمد للقوارب لحماية للسواحل الايطالية ؟؟؟؟ وهل من المصادفة أن يتعمد بعض الإعلاميين في هذا الأسبوع وتزامنا مع حادث غرق المركب إثارة موضوع الذئاب المنفردة من الدواعش وأعمال القتل التي حصلت في ألمانيا وايطاليا واسبانيا وفرنسا؟؟؟ أليس هذا تبريرا وتأييدا مبطنا لما حصل واستهتارا بأرواح الشباب، وحرصا ظاهرا على خدمة الأوروبيين يصل إلى مستوى العمالة بل الخيانة ؟؟؟
إن استمرار جنوح اللآلاف من الشباب في تونس إلى الهجرة عبر البحر وفي ظروف مأساوية لتؤكد لكل ذي عقل حالة اليأس التي يعيشها معظم الشباب في تونس، بل إن المتابع لعدد المهاجرين من الكفاءات المدربة من جامعيين أطباء ومهندسين وصحفيين يدرك بوضوح أن شباب تونس بكل فئاتهم قد ضاقت عليهم البلاد ولم يعودوا يأملون فيها عيشا كريما يليق بكرامة الإنسان، فالثورة التي بذلت فيها دماء زكية تُسرق ويتم تحويل وجهتها، وعادت البلاد مرة أخرى مرتعا للفاسدين والوصوليين الذين لا يترددون في بيع أرض تونس إلى السفارات، وبيع مؤسسات البلاد السيادية للأجانب وبيع ذممهم ودينهم من أجل البقاء في الحكم، فلا يُستغرب أن باعوا أيضا شباب تونس الهارب من جحيم حكمهم وتآمروا عليهم وأغرقوهم في البحر خدمة للايطاليين والأوروبيين.
ستبقى هذه الحادثة عارا في جبين هذه الدولة الوظيفية الفاشلة، وستبقى كابوسا يقلق مضاجع الفاسدين والوصوليين من حكامها ومؤسساتها، فشباب تونس المغرق في البحر قتل مرّتين: قتل قهرا وخذلانا قبل أن يقتل دهسا وغرقا، وأهلنا من الذين فقدوا فلذات أكبادهم في البحر يعلمون يقينا من دفع أبنائهم إلى هذا المصير المؤلم، وإنّ في تونس رجالا لا يسكتون على ضيم لم يقولوا بعد كلمتهم.
محمد مقيديش