حدّث أبو ذرّ التونسي قال: على امتداد يومي الجمعة والسّبت (23 + 24/11/2018) احتضن نزل (نوفوتال) بالعاصمة فعاليات ندوة دوليّة حول (المساواة في الميراث في المغرب العربي: مقاربات من أجل مناصرة مشتركة وحراك جامع) انعقدت تحت إشراف الجمعيّة التونسيّة للنّساء الدّيمقراطيّات والفدراليّة الدوليّة لحقوق الإنسان، وذلك من أجل تقييم وضع حقوق النّساء في المنطقة المغاربيّة وصياغة جملة من المطالب القانونيّة المشتركة بما يُفضي إلى تحقيق شكل إقليمي من أشكال المساواة في الميراث…وتتنزّل هذه النّدوة ضمن مسار كامل من الفعاليات انطلق منذ أواخر جويلية المنصرم وتناوب على شحذه وإحيائه وإثرائه مكوّنات (المجتمع المدني) المحلّي إلى جانب جمعيّات ومؤسّسات ذات صبغة إقليميّة ودوليّة…وقد أفضى هذا المسار إلى حراك فكري سياسي حول مسائل الحريّات الفرديّة والمساواة بين الجنسين لاسيّما فيما يتعلّق بالإرث…
ومع أنّ ندوتنا تتنزّل في هذا السّياق إلاّ أنّها تتميّز عن سائر النّدوات والمحاضرات الأخرى بميزتين أساسيّتين: أوّلاً، صبغتها المغاربيّة الدّولية، فقد افتتحتها (لوسي أسياغبور) المقرّرة الخاصّة لدى اللّجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب المعنيّة بحقوق النّساء، كما شاركت في فعالياتها خبرات من المنظّمات النّسوية والحقوقيّة بكلٍّ من تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ومصر وإيران وأفغانستان بما يُخرجها من الإطار المحلّي التّونسي إلى رحاب المغربة والأفرقة والتّدويل…ثانيًا: تزامنها مع مجلس وزاري برئاسة الباجي قايد السّبسي تمّت فيه المصادقة على مشروع قانون أساسي يتعلّق بإتمام الكتاب التّاسع من مجلّة الأحوال الشّخصيّة بباب سابع مكرّر تحت عنوان (أحكام تتعلّق بالتّساوي في الميراث)…بما يرقى بهذه النّدوة إلى مستوى تبادل الأدوار بين الرّئاسة والحكومة والمجتمع المدني والمنظّمات الإقليميّة والدوليّة من أجل التجييش لمشروع المساواة في الميراث وفرضه على الشّعب التّونسي المسلم الذي رفضه ولفضه وأحاله إلى مزبلة التّاريخ…وحسبُنا فيما يلي أن نتتبّع المسار السّياسي الذي أوصل هذا المشروع إلى التّدويل…
بيضة القبّان
ممّا لا شكّ فيه أنّ المساواة في الميراث بين الجنسين هي أبرز بند من بنود تقرير لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة: فهي تختزل ذلك التّقرير في ذاتها بوصفها بيت قصيده وبيضة قُبّانه، وقد مثّلت تاريخيًّا هاجس الكافر المستعمر ودابّته السّوداء التي تقُضّ مضجعه وتحُول دون مساعيه المحمومة نحو القضاء على الإسلام ومحو كلّ أثر له في حياة الأمّة الإسلاميّة…فرغم أنّه أزال نظام الحكم في الإسلام من الوجود بالقضاء على الدّولة العثمانيّة وإلغاء الخلافة سنة 1924، وألزم المسلمين بوجهة نظره في الحياة في ميادين الاقتصاد والاجتماع والتّعليم والمعاملات…إلاّ أنّ الكافر المستعمر أحْجم طيلة الحقبة الاستعماريّة عن استهداف العبادات والأحوال الشّخصيّة لأنّهما ألصق بالإسلام في المخيال الشّعبي وذهنيّة سواد النّاس من سائر أنظمة الحياة الأخرى، فظلاّ خطّ الدّفاع الإسلامي الأخير الذي لم يتجاسر على اقتحامه مخافة استفزاز مشاعر المسلمين وإثارة حفائظهم ضدّهُ…بعد مسرحيّة الاستقلال أوكل الكافر المستعمر تلك المهمّة القذرة إلى عُملائه وصنائعه من حُكّام الضرار وعلى رأسهم في تونس بورقيبة الذي تولّى وضع مجلّة الأحوال الشخصيّة المحاربة لله ورسوله…ورغم أنّه استهدف فيها بعض الأحكام الشرعية المتعلّقة بالزّواج والطّلاق والتبنّي إلاّ أنّ بورقيبة ـ كما جاء على لسان وزيره الأوّل محمّد مزالي ـ قد مات (وفي قلبه حسرة لأنّه لم يجد ولو شبه دليل شرعي يُكرّس به المساواة في الميراث)…وقد احتال المشرّع التّونسي طيلة الحقبتين البورقيبية والتّجمعية على أحكام المواريث عبر بوّابة الوصيّة الواجبة دون أن يتجرّأ على نقضها وإبطالها…بعد الثّورة طفت مسألة المساواة في الميراث من جديد على سطح الأحداث مدفوعةً تارةً بتوصيات المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان وطوْرًا بإملاءات صندوق النّقد الدّولي خدمةً لأجندات غربيّة تتربّص بالبلاد وأهلها…إلى أن تبنّاها بالوكالة عن الكافر المستعمر سي الباجي الذي أذِن في 13 أوت 2017 ببعث لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة وأوكل إليها أمر تنقية التشاريع التونسيّة من كلّ أشكال التّمييز ضدّ المرأة…
خطّ رجعة
وكما كان متوقّعًا فقد طفح كيل تقرير تلك اللّجنة بمقترحات صادمة للمشاعر الإسلاميّة خادشة للحياء العامّ منافية للفطرة الإنسانيّة السويّة، لذلك فقد رفضها الشعب التونسي وردّها ردًّا قبيحًا فضجّ العالم الافتراضي بتعاليق السّخط والشّتم والتّكفير والازدراء وفاضت شوارع المدن والقرى بالمتظاهرين الذين عبّروا عن تمسُّكهم بأحكام الشّرع …إزاء هذا الفشل الذّريع الذي يمسُّ من هيبة الدّولة في الصّميم ويهزُّ من صورتها في أعين منظوريها ويُجرّئهم عليها ـ حُكومةً وإدارةً وقوانين وإجراءات ـ كان لا بُدّ من خطّ رجعة يحفظ للحكومة ماء وجهها ويُبقي على شعرة معاوية بينها وبين الشّعب ويُحافظ على ما بقي من ثقة الكافر المستعمر فيها، وهي مطالب عزيزة المنال لا تتحقّق مجتمعةً إلاّ عبر إعادة تدوير تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة وضخّ دماء جديدة صُلبه وتسويقه في ثوب جديد مُغرٍ وجذّاب بعيدًا عن الانبتات والاستفزاز عَساهُ يلقى القبول لدى الشّعب التّونسي ولو على مضض…من هذا المنطلق وفي تبادل خبيث للأدوار، خرج علينا عضو اللّجنة (صلاح الدّين الجورشي) في ثوب السّاخط المتبرّم المنحاز إلى موقف الشّعب، واتّخذ من مؤسّسة التّميمي للبحث العلمي والمعلومات منبرًا لتقديم جملة من النّصائح الكفيلة بتلافي أخطاء النّسخة القديمة لمشروع اللّجنة وتنقيتها ممّا شابها من منغّصات مع الإبقاء على جوهرها المتمثّل في المساواة في الميراث…وقد نصّت توصيات الجورشي على (إثراء تركيبة اللّجنة المحسوبة على طيف استئصالي معادٍ للإسلام ـ إشراك الإسلاميّين في مراكز قرار التّركيبة الجديدة ـ إيجاد الغطاء الاجتهادي التّأويلي المقاصدي لمقترحاتها ـ إقصاء كلّ ما من شأنه أن يستفزّ مشاعر المسلمين ـ مزيد العمل مع القواعد الشعبيّة حتى لا يكون المشروع مُسقطًا منُبتًّا عن الشارع)…أي إلباس جوهر المشروع جبّة الإسلام وتمريره عبر قناة شرعية من حيث الأطراف (إسلاميّون) والآليّات (فقه واجتهاد)، وبذلك يتمّ الالتفاف النّاعم على إرادة الشّعب التونسي المسلم وتُعَوَّمُ الجريمة المقترفة في حقّ أحكام المواريث بما يُمكّن الأذناب المحليّين من التفصّي من تبعاتها…
أكباش فداء
أولى خطوات خطّ الرّجعة وفق (خارطة طريق السّبسي) تمثّلت في تنقية التّقرير من كلّ ما من شأنه أن يخدش حياء المسلمين ويثير حفائظهم: ذلك أنّ جوهر مشروع السّبسي المتمثّل في المساواة في الميراث قد ساقته اللّجنة ضمن جملة من البنود الصّادمة المغرقة في الصّفاقة والتّطاول على الله ورسوله (عدم تجريم المثليّة ـ زواج المسلمة من كافر ـ حريّة تعاطي المخدّرات…)، وقد أثارت تلك البنود سخط النّاس على اللّجنة ورفضهم لتقريرها…لذلك فقد وقع التّضحية بها وتقديمها كأكباش فداء وشمّاعات تُعلّق عليها جملة المؤاخذات بما يؤدّي إلى تنزيه بند المساواة في الميراث وعدم المساس به في مقابل التخلّي عن بقيّة البنود…وبذلك تكون السّلطة في موقف المتنازل والمستجيب لإرادة الشارع المسلم وتكون الكرة في شباك الشعب الكريم مع أنّ هذه الحركة تُعَدُّ من قبيل إعدام ميّت: فما وقع التّضحية به من بنود هو إمّا مكرّسة عمليًّا على أرض الواقع (إلغاء عقوبة الإعدام ـ عدم تجريم المثليّة ـ نسبة ابن الزّنا لأبيه وتوريثه…) أو شكليّة لا يمكن تطبيقها أو ضبطها بقانون دقيق (إلغاء العدّة و المهر وقوامة الرّجل..)…بعد عمليّة (التّنظيف) هذه تلقّف سي الباجي النّسخة الجديدة وصاغ منها مبادرته المسمومة….فقد أعلن اعتزامه عرض مشروع قانون على البرلمان يتمثّل في إدراج المساواة في الميراث بين الجنسين صُلب مجلّة الأحوال الشخصيّة مع ترك إمكانيّة اللّجوء إلى التشريع الإسلامي مفتوحة لخيار المورّث إذا عبّر عن رغبته في ذلك حال حياته وقبل مماته…أمّا في حالة السّكوت فيقع بصفة آليّة تطبيق مبدأ المساواة في الإرث باعتباره المبدأ الأصل في مادّة المواريث (هكذا بكلّ صفاقة)…بحيث أنّ المسلم الذي تُوافيه المنيّة على حين غرّة تُقسّمُ تركتهُ بين ورثته على غير ما نصّ الشّرع الإسلامي…
غطاء شرعي
ثاني خطوات خطّ الرّجعة تمثّلت في تأمين الغطاء الشرعي لمبادرة السبسي وإيجاد رأي عامّ حولها صُلب القاعدة الشعبيّة: على هذا الأساس انخرطت الساحة الثقافيّة/السّياسية منذ موفّى جويلية المنصرم في شبه حوار مفتوح أسال حبره ثلّة من الوجوه الثقافيّة الدولية واليسارية والإسلاميّة وأثّثت ندواته ومحاضراته جملة من الأطراف المحسوبة على المجتمع المدني أو على التيار الإسلامي ،كما سُجّلت مشاركة أطراف أجنبيّة أيضًا (مؤسّسة كونراد أديناور ـ مؤسّسة فريدريش ناومان ـ منظمة العفو الدولية ـ اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب ـ الفدرالية الدوليّة لحقوق الإنسان…) وقد أخذ هذا الحوار على عاتقه وضع مقاربة لتطوير أو تغيير أحكام الميراث ومنظومة الوصيّة عبر آليّة الاجتهاد…وبما أنّ هذا الهدف قد اصطدم بقطيعة نصوص الميراث وبقاعدة (لا اجتهاد مع نصّ) فقد تطلّب تحقيقه إشاعة أجواء من الضبابيّة والميوعة التي طالت بالإفراغ أو التحوير أو التضييق أو التّوسعة جملة من المصطلحات الشرعية من قبيل (اجتهاد ـ تأويل ـ تفسير ـ قطعي ـ ظنّي ـ تعصيب ـ كلالة ـ نصاب ـ موانع ـ نصّ…) وذلك بُغية إيجاد مداخل للاجتهاد في نصوص الميراث القطعيّة…وقد أفضى هذا التمشّي المُغرض إلى استنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان على غرار (التشريع وليد عصره ـ وجوب الملائمة بين النص الدّيني الجامد والواقع المتحرّك ـ التقسيم قطعي/ظنّي فعل بشري ـ التعصيب والكلالة من وضع الفقهاء ـ موانع الميراث غير منصوص عليها شرعًا ـ ليس هناك قطعي في القرآن ـ الفقهاء اجتهدوا في أحكام قطعيّة ـ الشرع لم يُحّد الوصيّة كمًّ وأصحابًا…) وما إلى ذلك من الافتراءات التي يضيق الحيّز الصّحفي عن تعدادها فضلاً عن الرّد عليها والتي من شأنها أن توجد المبرّرات لنسف أحكام المواريث…
آخر الطب تدويل
إلاّ أنّ هذا الحوار الذي أُريد له أن يُرسي رأْيًا عامًّا حول مسألة المساواة في الميراث تبيّن أنّه حوار ذاتي (مونولوق)عبارة عن (وان مان شو): إذ كان حوارًا نخبويًّا بعيدًا عن نبض الشارع التونسي محصورًا فيما بين النّخبة اللبراليّة واليساريّة المتعفّنة أو الإسلامية المضَلّلة بمثابة (بضاعتنا رُدّت إلينا)، فلم يتجاوز صداه حيطان قاعات النّزل الفخمة التي احتضنتهُ…وهو بصفته تلك لن ينفع مبادرة السبسي في شيء ولن يُسندها حال عرضها على البرلمان لمناقشتها ولن يُساهم في إيجاد رأي عامّ لها بين سواد النّاس…وبما أنّ الكافر المستعمر صاحب المبادرة الحقيقيّ يعي هذا المعطى جيّدًا ويعلم علم اليقين أنّ مبادرته تفتقد للسّند الدّاخلي، فقد انخرط في الخطوة الأخيرة بوصفها (آخر الطبّ الكيّ) وتتمثّل في محاولة التّجييش الخارجي للمبادرة عبر تدويل مسألة المساواة في الميراث وإكسابها شهرة داخليّة وخارجيّة من خلال بوّابة المَغربة والأفرقة والأسلَمة في محاولة لإيجاد رأي عام مغاربي وإسلامي ـ ولِم لا ـ إفريقي ودولي يُسنِد أيتام الاستعمار ولُقطاءه في تونس وسائر البلاد المغاربيّة ويُوجد لمبادرتهم المسمومة القبول داخل أسوار البرلمان وفي الشارع التونسي أو المغاربي…في هذا الإطار بالذّات تتنزّل ندوة النساء الديمقراطيّات الأخيرة: إطار تعزيز التعبئة المتصاعدة ورصّ الصّفوف وتوحيد القوى لفائدة المساواة في الإرث من خلال التجييش الإقليمي والعالمي لها بما يُغطّي عُزلتها وغربتها وانبتاتها المحلّي ويوجِدُ لها دعمًا إقليميًّا ودوليًّا ويفرضها داخليًّا رغم كونها منبوذة مرفوضة…فهل سيتحقّق لها ذلك أم سينقلب السحر على السّاحر ويُدوّل الرفض..؟؟