ليست مدينة بنزرت الضحية الأولى وفي ظل الدولة بنظامها الحالي لن تكون الأخيرة.. فمنذ القرن الماضي أبت دولة الحداثة إلا أن تجعل أهل تونس من شمالها إلى جنوبها ينعمون بعظيم انجازاتها إلى حد الغرق, فمن لم تجرفه مياه الأمطار، تبتلعه الأوحال. ومن نجا من هذا وذاك ينهار عليه سقف منزله.. أما أصحاب الحظ السعيد يكون مصابهم في أرزاقهم, كأن تجرف السيول حقولهم ومزارعهم, أو تنفق قطعان مواشيهم.. مع الحصول طبعا على كم هائل من تعاطف المسؤولين وسيول جارفة من الوعود بالعمل على عدم تكرار تلك الماسي بفعل ما ستقوم به الدولة من إجراءات لفائدة المناطق المنكوبة, وبفضل ما رصدته من تعويضات للمتضررين بشكل يجعلهم يتمنون أن تحدث الفيضانات يوميا آخر..
فالرعب الذي جثم على صدور أهالي مدينة بنزرت وكاد يكتم أنفاسهم خرج من قمقمه سنة 1969 في ذروة تباهي “بورقيبة” بفضائل دولة الحداثة ونقله البلاد والعباد من حالة البؤس والعوز والتخلف إلى عالم الرقي والتقدم. ففي تلك السنة اجتاحت البلاد فيضانات غير مسبوقة وخلفت أضرارا جسيمة خاصة بشمال و الوسط. وحينها كان الحدث الأبرز والذي طغى على حجم الكارثة التي حلت بالبلاد فائض عطف الزعيم على شعبه المنكوب, ووعده له بأن ما حصل لن يتكرر. كيف لا ودولة الحداثة قائمة وعلى رأسها الزعيم الأوحد,والقائد الملهم وبعد ما يزيد عن عقد من الزمن, وتحديدا سنة 1982 حلت بمدينة صفاقس طامة أخرى وإلى يومنا هذا لم يعرف عدد ضحايا الفيضانات التي أغرقت المدينة وقتها.. وتتواصل الجوائح ويواصل سدنة دولة الحداثة ممارسة شعوذتهم والتغني بمكاسب دولتهم التي لم تغادر غياهب العصور الوسطى..
ولتكون سنة 1990 شاهدة على انجازاتهم الخارقة حيث غمرت المياه مدينة سيدي بوزيد بالكامل, وجرفت السيول قرابة 20 شخصا والعديد من الأراضي الزراعية والمواشي.. وأحاطت المياه بالمدينة احاطة السوار بالمعصم, وانقطعت عن العالم. مما أدى إلى نقص حاد في جميع المواد الاستهلاكية وخاصة الأساسية منها. وكدأب “بورقيبة” وجنوده, كان الطاغي آنذاك نعيق غربان “بن علي” والتطبيل للعهد الجديد وتحول 7 نوفمبر المبارك الذي قفز بالبلاد نحو الازدهار والسؤدد.
تقدّم كشفت حقيقته وعرت زيفه مرة أخرى السيول التي غمرت مدينة تطاوين سنة 1995 وخلفت خسائر جسيمة جدا. المشهد المأساوي ذاته يتكرر سنة 2003 والضحية كانت مدينتي منوبة وجندوبة, والخسائر دوما فادحة, ولتكون أكثر فداحة سنة 2009 حيث لقي 17 شخصا حتفهم بمدينة الرديف. واتلفت أراضي زراعية ومنازل. وامتدت السيول الجارفة إلى مدن مجاورة منها قابس وصفاقس.. وطبعا تناقلت وكلات الأنباء وجميع وسائل الاعلام المريء والمسموع والمكتوب أخبار الكارثة, وازدحمت جميعها بقرارات صانع التغيير للقضاء على مثل هذه الكوارث. اذ أذن بتشكيل لجنة تدخل سريع واتخاذ اجراءات لمجابهة مثل هذه الكوارث. والتي يضيق المجال لعدها والاتيان عليها..
فرّ “بن علي” لكن دولة الحداثة بنظامها الديمقراطي الوضعي مازال سيفها مسلطا على رقابنا. ومازالت الفيضانات تفتك بالناس وممتلكاتهم كما حصل سنة 2016 بالقيروان.. وسنة 2017 بتطاوين, وصولا إلى سنة 2018. وما حصل أخيرا وليس آخرا لمدينة بنزرت وغيرها من المدن مثل مدينة نابل ناهيك عن العاصمة… أمطار في مجملها ليست بتلك التي لا قبل لدولة بها.. لكن العجز عن اتخاذ الاجراءات رغم أنها كما يؤكد الخبراء بسيطة وفي المقدور القيام بها هو الذي جعل البلاد تحت وطأة الفيضانات, ثم -وهذا الأهم- إن مشاغل دولة الحداثة بعيدة كل البعد عن مشاغل الناس وهمومهم. ف “بورقيبة ” اوجدها لهدف حدده له من أجلسوه على كرسي الحكم. وبذلوا كل ما في وسعهم لينجح في ما يرمون إليه, وهو محاربة الإسلام ولا شيء غير ذلك. وعلى نهجه المضل سار من جاء بعده.. وازداد الأمر ضراوة بعد الثورة. ولنا في “الباجي قائد السبسي” ولجنته –لجنة الحريات الفردية والمساواة- الذي أمره مسؤوله الكبير بتكوينها, وأوحى له بمضمونها, والمتمثل في القضاء على ما تبقى من أحكام الإسلام.. والولوغ أكثر في نمط عيش الغرب العفن. مما يبعد المسلمين في تونس عن دينهم الإسلام بوكونه مبدأ يشمل جميع شؤون الحياة.. هذه هي مهمة دولة الحداثة, محاربة أحكام الإسلام وتغييبه بالكامل عن الحياة ومن ثمة التفريط في البلاد لعدونا بالجمل وما حمل.
أما رعاية شؤون الناس فذلك محرم على كهنة الحداثة وإن كان مجرد جهر مجرى وادي. وعلى ذكر جهر الأودية, أفاد الرئيس المدير العام لديوان التطهير بأن الدولة تخصص سنويا 2 مليون دينار في حين رصدت هذه السنة أكثر من 5 مليون دينار لمهرجان قرطاج وفق ما صرح به مدير الدورة الحالية لهذا المهرجان.. هذا دون الحديث عن المهرجانات الأخرى التي أغرقت البلاد تماما كما أغرقها الطوفان..
الشيء الذي يجعلنا نحسد بغلَة في زمن الفاروق عمر بن الخطاب الذي ترتعد فرائسه كلما تخيل بغلة في العراق لأنه لم يمهد لها الطريق. وأن الله حتما سائله عن تقصيره نحوها. أما دجالو دولة الحداثة فتزهق أرواح المسلمين وتنفق مواشيهم –لم تتعثر- وتهدم منازلهم على رؤوسهم.. ولا يرتجف لهم جفن. والسبب أن عمرا رضي الله عنه رعا شؤون الناس بأحكام الإسلام, وكهنة الحداثة والديمقراطية أقصوها وجيشوا شياطينهم لمحاربتها, وهنا يكمن الفرق.