بين إعلان الجمهوريّة وإجراءات سعيّد الاستثنائيّة: 25 جويلية: الرّمزيّات والمآلات
سنتان مرّتا على بدء العمل بإجراءات الرّئيس قيس سعيّد الاستثنائيّة، وهي مرحلة تطبيقيّة عمليّة كافية لا لتقييم تلك الإجراءات واستشراف مآلاتها فحسب، بل ولتقصّي ودلالاتها وإحالاتها أيضا، ناهيك وهي مؤرّخة بيوم مشحون بالرّمزيّات العقائديّة والسياسيّة: فـ 25 جويلية تاريخ مرتبط بذكرى إعلان النّظام الجمهوريّ في تونس، واختيار قيس سعيّد لهذا التّاريخ بالذّات لفرض إجراءاته الاستثنائيّة لا يمكن أن يكون اعتباطيّا مجّانيّا، ولا يمكن إلاّ أن يكون في علاقة جدليّة برمزيّة ذلك التّاريخ وما تحيل عليه المناسبة المرتبطة به من دلالات..فما هي شحنة الرّمزيّات العقائديّة والسياسيّة التي يحيل عليها إعلان الجمهوريّة..؟؟ ما مدى وفائها للعقيدة الإسلاميّة وما انبثق عنها من منظومة حكم..؟؟ ما الدّاعي لاستحضارها وإعادة تدويرها وتجديد الولاء لها..؟؟ وكيف استوعبتها إجراءات سعيّد الاستثنائيّة ظرفيّة ومضمونا وسياقات ومآلات..؟؟
ــ ممّا لا شكّ فيه أنّ إعلان الجمهوريّة هو حدث مفصليّ بامتياز في تاريخ تونس المعاصر مشحون بالرمزيّات المعادية للإسلام بما يبوّئه مرتبة الجريمة النكراء في حقّ هويّة البلاد والعباد وانتمائهم الحضاري والسياسيّ: فالجمهوريّة نظام حكم مناقض تمام المناقضة لنظام الحكم في الإسلام (الخلافة)، فهو يُصَنَّف شرعا ضمن أنظمة الكفر لأنّه يُسند التشريع للبشر ويؤسّس للظلم والفساد والتفسّخ ويشجّع على التحللّ من الأحكام الشرعيّة باسم الحريّات العامّة، ولأنّه يفرّق السلطة ويُجَزّئ الحكم في مخالفة صريحة لما أقرّه الإسلام نصّا وعملا وجرى عليه إجماع الصحابة والتزمت به الأمّة في جميع العصور..من هذه الزّاوية بالذّات يجب أن ننظر إلى إعلان الجمهوريّة بوصفه حربا على الله ورسوله وانقلابا على الهويّة الإسلاميّة للبلاد وتزييفا لانتمائها الحضاريّ والثقافيّ وبترا لها عن جسمها وحيلولة دونها وتطبيقَ الإسلام..
ــ أولى هذه الرّمزيّات دستوريّة: فإعلان الجمهوريّة هو مناورة دستوريّة استعماريّة للالتفاف على هويّة البلاد وانتمائها الحضاريّ والسياسيّ، فإنّ الاستعمارـ وقبل تسليم تونس شهادة ميلادها كدُويلة وطنيّة تابعة عميلة ـ سعى جاهدا إلى تزييف انتمائها وفكّ ارتباطها التاريخيّ بالدّولة الإسلاميّة والحيلولة دونها وتطبيق الشرع الإسلاميّ ثم ربطها بالغرب ربطا عُضويّا محكما..وقد تولّت الزمرة البورقيبيّة تنفيذ هذا المخطّط بالنيابة عنه على أحسن وجه: فادّعت ابتداء أنّ حكم البايات هو نظام ملكي تشويها وتضليلا بما ينفي عن الدولة الحسينيّة صفة الإيالة العثمانيّة الخاضعة لنظام الخلافة ،ثمّ عمدت إلى هذا النظام الملكي المُتوهّم فألغته وأرست على أنقاضه النظام الجمهوريّ ،فترتّب على ذلك آليّا اندراس أحكام الإسلام واستحالة تطبيق الشرع لاستبدال طريقة تطبيقه (الخلافة) بنظيرتها في المبدأ الرأسماليّ (النظام الجمهوريّ الديمقراطيّ)..فـ 25 جويلية 1957 هو تاريخ انفصال تونس عن الدّولة الإسلاميّة وعن الشّرع الإسلاميّ وارتباطها العضويّ بالكافر المستعمر..
ــ ثاني هذه الرّمزيّات ثقافيّة: فالجمهوريّة ـ فضلا عن كونها نظام حكم ـ هي أيضا ثقافة وقيم ومبادئ وطريقة عيش ووجهة نظر في الحياة مخالفة للإسلام وعلى طرف نقيض معه على جميع المستويات..فالجمهوريّة مشحونة بقيم متعلّقة بالحكم (الديمقراطيّة ـ السّيادة للشّعب ـ تفريق السّلط ـ تجزئة الحكم ـ النّظام الرّئاسيّ ـ النّظام البرلمانيّ..)..وأخرى متعلّقة بالاقتصاد (رأسماليّة ـ حريّة تملّك ـ لبراليّة ـ اقتصاد السّوق..).. وأخرى متعلّقة بالإنسان (الحريّة الشّخصيّة ـ حريّة المعتقد ـ حريّة التّعبير..)..وهذه القيم لا علاقة لها بقيم الإسلام، فهي نابعة أساسا من الحضارة الغربيّة وعقيدة فصل الدّين عن الحياة، وهي ـ بما انبثق عنها من قوانين ودساتير ـ تجسيد ثقافيّ حضاريّ لمبادئ الثّورة الفرنسيّة..من هذا الثّدي تحديدا رضع رئيسنا قيس سعيّد حدّ الثّمالة، ناهيك وهو خبير في قانونها الدّستوري..فـ 25 جويلية 1957 هو تاريخ انتصاب المحراب الفكريّ الثقافيّ الفرنسيّ على الأرض التونسيّة بوصفه تابعا للمعبد الفرنسيّ الأمّ لكن يدار بأياد محليّة..
ــ هذا الابن البيولوجي (وليس بالتبنّي) للثقافة الغربيّة في وجهها الفرنسيّ الكالح، عندما اعتلى سدّة الحكم في تونس ذات 2019 وجد أنّ المعبد الثقافيّ الفرنسيّ آيل للسّقوط، ومحراب الحكم مدنّس بالانحرافات الديمقراطيّة وسادنه لا تجري في عروقه دماء جون جاك روسو (الطّاهرة النقيّة)، أمّا أوهامه الدّستوريّة النظريّة فلا مكان لها في الحكومة والوسط السياسيّ الموبوءين بالديمقراطيّة التمثيليّة والغارقين في حمأة البرلمان الكسيح والأحزاب الانتهازيّة، فلا دولة ولا سيادة ولا دور حقيقيّ للشّعب..فلا بدّ إذن من لمسة فكريّة سياسيّة تعيد للمعبد الفرنسيّ ألقه ورونقه الذي شاع مع بورقيبة وانقلاب 25 جويلية 1957..وبناء عليه التحم سعيّد برمزيّة ذلك اليوم، واتّخذ من الثقة التي منحها إيّاه الشّعب التونسيّ صكًّا على بياض ليحوّل الدّولة إلى مختبر حيّ للنظريّات الطوباويّة الفوضويّة الفجّة ويحوّل الشعب إلى فئران مخابرلها..فاستند ـ بوصفه رئيسًا ـ إلى الفصل 80 من الدّستور ليستحوذ على السّلطة التنفيذيّة ويجمّد السّلطة التشريعيّة ويطبّق مشروعًا على مقاس وضعه السياسي ووضع حاضنته فرنسا: إذ يمكّنه من الحكم الفعلي عبر عزل خصومه في الحكومة والبرلمان والأحزاب وتهميشهم وتركيز السلطة التنفيذيّة في شخصه ومغازلة القواعد الشعبيّة وتقويتها بتشريكها في الحكم لمساندته..كما يمكّن فرنسا من عزل عملاء بريطانيا لتخلو السّاحة السياسيّة التونسيّة لها ولرجلها بما يمكّنها من السّيطرة على البلاد والعباد..
ــ يمكن ـ بكلّ بساطة ـ أن نلخّص سنتين من تطبيق الإجراءات الاستثنائيّة لقيس سعيّد بلفظة واحدة: (أوهام).
أوهام فكريّة بان عوارها وعدم قابليّتها للتّطبيق لذي عينين، فشل أصحابها ومنظّروها في إيجادها في الواقع لإغراقها في الطّوباويّة: فكر أممي ثوري ضدّ الأحزاب وأشكال الانتظام السياسيّ الكلاسيكي وضدّ العولمة وضدّ الليبرالية الاقتصاديّة وضدّ النّظام العالمي وضدّ الدّيمقراطية التمثيليّة وضدّ النّخبويّة..عبارة عن توليفة من شتات أفكار شيوعيّة واشتراكيّة وفوضويّة وطوباويّة مثاليّة تتغذّى من أطروحات منظّرين على يسار اليسار (إريك هوبزباوم ـ ألان دونو ـ جايمس سكوت ـ روزا لكسمبورغ..)..هذا (الكوكتال) من الأفكار المنبوذة شيوعيًّا يتبنّى المثاليّة المجالسيّة أو شيوعيّة المجالس القائمة على الانتظام الذّاتي بدءًا بالمستوى المحلّي الضيّق صعودًا نحو المركز في شكل بناء هرمي قاعدي عبر التشاور والتوافق ضمن مجال مغلق فيما يشبه الدّيمقراطيّة الأثينيّة أو ديكتاتوريّة البروليتاريا أو لجان القذّافي الشعبيّة..وهم حكم فشل قبل أن يبدأ تطبيقه ليلتحم برمزيّة فشل النّظام الجمهوريّ البورقيبيّ..
ــ أوهام سياسيّة كُلّلت بفشل ذريع: فعلى المستوى السياسيّ يمكن تلخيص هاتين السنتين بثنائيّة (الأزمة والفشل)، أزمة تلو الأزمة يعقبها فشل تلو الفشل وذلك على جميع الأصعدة، السياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة..صحيح أنّها أزمات موروثة من الأنظمة السّابقة، ولكنّه لم يكتف بالفشل في علاجها فحسب، بل تكرّست وانتعشت في عهده (هجرة الأجص) ومرّرت على يديه مشاريعها المسمومة (الأليكا)..أمّا طريقته في علاج الأزمات فهي خاصّة جدّا، وتبدأ بإنكار الأزمة ثمّ إغداق الوعود والمصروف اللغويّ، لتنتهي بسرديّته المستهلكة الممجوجة القائمة على نظريّة المؤامرة،(هناك من يتآمر على الدّولة ويعرقل سير الإصلاحات ويفتعل الأزمات وينكّل بالشّعب..) ليتّخذ من (الشبكات الإجراميّة ـ المتربّصين بالدّولة ـ السّاعين لتفكيكها ـ لوبيّات الفساد ـ الواقفين خلف السّتار..) شمّاعة يعلّق عليها فشله وعمالته بل وتواطؤه في المشاريع الاستعماريّة المستهدفة لتونس..لينخرط بمقتضى هذه الوصفة الجاهزة في حرب (دونكيشوتيّة) ضدّ طواحين الهواء المتوهّمة والتي لن تنتهي إلاّ برهن البلاد والعباد والمقدّرات بالكليّة للمستعمر القديم/الجديد، وهذا هو الالتحام الحقيقيّ برمزيّة 25 جويلية..
CATEGORIES كلمة العدد