“تاج الحاضرة” على رأس “ولد مفيدة”: من الدراما إلى السياسة عبر غطاء التاريخ
لا عجب في زماننا أن تصبح الدراما من بين أهم أدوات تزييف التاريخ، ولا أن تستورد الديمقراطية الناشئة في تونس ثقافة “الحرملك” من مسلسلات “الديمقراطية التركية العريقة”، ولكن أن يُطوّع التاريخ والدراما معا لوحي السفارات الأجنبية، فذلك هو التضليل السياسي الذي يجعل أبطال الدراما ضحايا جهل التاريخ وإغراء المال السياسي القذر في آن واحد.
من الصفحة الرسمية على الفايسبوك لسفارة بريطانيا في تونس، جاءنا في الأيام الأخيرة اعتراف بأن عددا من المشاهد الرئيسية لمسلسل “تاج الحاضرة” الذي أنتجه سامي الفهري قد تم تصويرها في إقامة
السفيرة البريطانية الحالية “دي سوزا”، وأن السفارة سعيدة بلعب دور في المساعدة على “إعادة التاريخ إلى الحياة”.
هكذا، صار الشعب التونسي يكتشف كواليس المسلسلات الرمضانية عبر السفارات الأجنبية، أما الشماعة التي تم استعمالها من قبل السفارة لتقديم المساعدة، فهي حصول أول قنصل بريطاني استقر في تونس منذ 1856 على قصر (دار بن عياد) كهدية من طرف محمد باي، ورب عذر أقبح من ذنب.
تاريخ حافل بالخيانات والتآمر على أهل البلد هذا الذي يراد إحياؤه عبر مسلسلات لم تعد تجد مانعا من استعمال الغطاء التاريخي لتمحو الوقائع التاريخية وتطمس الناحية النضالية لهذا الشعب وتلبس الخائن في المقابل ثوب المجاهد الأكبر، ولابتلاع الطعم ليس علينا سوى متابعة بقية باقة قنوات وإذاعات “إعلام العار” التي راحت تتنافس في التطبيل لهذا “الإنجاز الدرامي العظيم” باستثناء بعض الانتقادات الشكلية لأداء بعض الممثلين.
هذا المسلسل، لم يكن برعاية زبدة “جديدة” أو مقرونة “رندة”، بل برعاية سفارة المملكة المتحدة وبنكهة استعمارية فاحت رائحتها في شهر لم تصفد فيه شياطين الإنس. أولى اللقطات، كانت متعلقة بقرار “أحمد باي” (الذي بالغ المسلسل في تمجيده) حول إلغاء العبودية، مع أن الأمر لم يكن في الحقيقة من تدبيره، حيث ذهب المؤرخ التونسي الهادي التيمومي أثناء دراسته لهذه الحقبة في مؤلفه ”تونس والتحديث 1831-1877“ إلى أن “بريطانيا سلطت بعض الضغط على أحمد باي لحثه على إلغاء العبودية…وفي 26 جانفي 1846 ألغى أحمد باي العبودية وكان هذا الإجراء بمثابة التعبير عن حسن النوايا قبيل زيارته المرتقبة إلى فرنسا في أواخر 1846”. أي أن الأمر لم يكن سوى جزء من خطة اللاعبين الكبار حين كان “أحمد باي” مجرد دمية بأيديهم.
أكبر فضيحة فساد في تاريخ تونس
وللعودة إلى المغيب في شخصية “أحمد باي” التي أسند فيها الدور إلى ممثل جديد في الصورة يدعى “عزيز باي” (قيل أنه ينحدر بدوره من عائلة البايات)، لا بد من فتح صفحة “محمود بن عياد” من كتاب التاريخ قبل إتحاف أهل هذا الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان ضمن نسخة يراد أن يستمر عرضها لسنوات…
ليس مخطئا من يرى أن اسم محمود بن عيّاد سيظلّ مقترنا على مرّ العصور بأضخم قضيّة فساد ماليّ في تاريخ تونس حيث صارت تعرف فيما بعد بنازلة محمود بن عياد، فقد استنفد بحيله في الاختلاس والتّربّح غير المشروع كلّ ما في دار المال من سيولة وتحوّز من أوامر الصّرف والرّسوم الماليّة التّي تتضمّن ديونا على الدّولة لفائدته ما فاق مداخيل المملكة وثروتها حتّى قال ابن أبي الضّياف في إتحافه: «لو تَمَّ مُراد ابن عيّاد …كانت المملكة في أسره لوقتنا هذا لكثرة ما بيده من الأوامر والرّسوم».
لم يكن محمود بن عيّاد في بداية أمره سوى أمير لواء، ولكنّه ينتمي إلى أسرة عريقة في التّجارة، كما أنّه استغلّ في ولاية مصطفى باي صداقته الحميمة بوليّ العهد المشير أحمد باي وتسلّل إلى أروقة القصر فصار هو ووالده محمّد بن عيّاد من التّجّار الذّين يزوّدون الدّولة ببعض ما تحتاجه من اللّوازم والمؤن. وتعزّزت مكانته بعد وفاة مصطفى باي وتولّي ابنه أحمد باي الحكم فعُهد إليه بتصدير ما تنتجه البلاد من الزّيت وتوريد ما تحتاجه من الحبوب وغيرها من الموادّ والقيام بما يلزم العسكر من الكسوة.
وهنا التقت قدرات بن عياد وخبرته العجيبة في التحيل بطمع أحمد باي واستعداده لنهب خزينة الدولة على حساب آلام الشعب إثر سنوات الجدب، وحيث توالت على البلاد التّونسيّة في أربعينات القرن التّاسع عشر سنوات جدب وإمحال تناقص بسببها إنتاج الحبوب فقد اتّجهت إلى استيراد القمح والشّعير من فرنسا، وهكذا كلّف أحمد باي محمود بن عيّاد بمهمّة استجلاب الحبوب إلى تونس بالأموال التّي سيحصّلها من بيع الزّيت هناك مقابل حصوله على نسبة من تلك الأموال. ولمّا كان بن عيّاد يشرف على ما يُسمّى آنذاك بـ”الرابطة” وهي إدارة مطامير خزن الحبوب للدّولة (وكانت تقع في المكان الذّي أُقيم عليه المستشفى الذّي يحمل اليوم الاسم نفسه) فقد زعم أنّه اشترى حبوبا من فرنسا غير أنّه استولى على كامل أموال بيع الزّيت وأخرج ما يُحتاج إليه من الحبوب من مخزونات مطامير الرّابطة.
ثمّ سعى لدى الباي إلى أن يُغيّر صيغة إشرافه على «الرّابطة» فعقد معه اتّفاقا سرّيّا تحوّل بمقتضاه من موظّف سامٍ يُدير «الرّابطة» إلى مستلزم يتولّى قبول القمح والشّعير من الفلّاحين على أن يدفع مبلغا معيّنا من المال إلى الدّولة في كلّ سنة وأن يبيعها العشرة مكاييل من الحبوب بسعر الاثني عشر، وسُميّ على هذا الأساس وكيلا للرّابطة.
إلّا أنّه استغلّ كذلك هذه اللّزمة السّريّة لانتهاب الدّولة والفلّاحين معا. أمّا الفلّاحون فإنّه يقبل منهم العشرين مكيالا على أنّه عشرة فقط لحيل عجيبة وطرائق مخصوصة يأتيها الكيّال عند قبول القمح يتضاعف بها حجم البضاعة، وأمّا الدّولة فإنّه يدفع لها ستّة مكاييل على أنّها عشرة بحيل في التّطفيف مُشابهة. وعلى هذا فهو إذا اكتال من الفلّاح يستوفي وإذا كال للدّولة يُخسِر كما جاء في آية المطفّفين. والخلاصة أنّه يُقاضي الفلّاحين النّصف ممّا يستحقّونه ويتقاضى من الدّولة ضعف ما يستحقّ، فاجتمعت له ثروة طائلة من استلزام الحبوب.
والأدهى من ذلك كلّه ما ترتّب عن هذا الفساد من وخيم النّتائج على حال النّشاط الفلاحيّ، فقد زهد الفلّاحون في بذر أراضيهم بسبب الضّيم الذّي لحقهم حتّى كادت أن تنقطع زراعة الحبوب وبقيت الضّيعات مراعي للدّوابّ ومبيتا للوحوش وتفاقم الأمر وانتشر الفقر وصارت دفاتر الأعشار (جمع عُشُر وهو ما يدفعه الفلّاح للدّولة ضريبة على إنتاجه) تأتي من الجهات وأكثر «الهناشر» يُكتَب اسمه مقترنا بلفظ «أبيض» كناية عن عدم البذر.
في المقابل، قام الخائن محمود بن عياد بسرقة الخزانة التونسية وهرب إلى فرنسا حيث إشترى فيها عقارات (نزل “Collot” سنة 1852، قصر “Bourges” سنة 1856 ورواق “Mandar”) وحصل فيها على الجنسية الفرنسية للإحتماء بفرنسا وأثبتت التحقيقات تورط مدير الخزانة والوزير الأكبر مصطفى خزدار واسمه الحقيقي GIORGIOS STRAVELKIS وهو يوناني الأصل شغل منصب الوزير الأكبر (رئيس الوزراء) عدة مرات، أغرق تونس في الديون وبدد ما بين 1862 – 1869 ما قدره 300 مليون فرنك اقترضها من أوروبا وتسببت تلك الديون في دخول الاستعمار لتونس سنة 1881.
ما يذكره التاريخ ولا يمكن لأهل تونس نسيانه، بعد عهد الأمان وإقرار الدستور التونسي سنة 1861 وهي تغييرات شكلية على المنوال الذي تدفع له بريطانيا وفرنسا، هي رزمة “الإجراءات الأليمة” التي أثقلت كاهل الناس بالضرائب لتغطية عمليات النهب المنظم وأشعلت فتيلة ثورة علي بن غذاهم في وسط البلاد ثم تم اجهاضها في غضون أربع سنوات، وقد أعلنا انتهاء الثورة كل من سفير بريطانيا وإيطاليا في تونس.
ما يعجز عن ذكره المسلسل
يبدو أن إعادة صياغة التاريخ، لم تقف على إخفاء رضوخ بايات تونس إلى إملاءات المستعمر وتقديم البلاد للمتربصين بها على طبق من ذهب، بل انخرط المسلسل في إنتاج النسخة التونسية من “حريم السلطان” حيث سعى إلى تصوير التأثير الكبير للجناح الخاص بالسلطان العثماني في بنية الحكم. وقد تجلى هذا الخيار من خلال هيمنة العالم المغلق لنساء الباي والحاشية، بما يحمله من صراع أحادي حول إثبات القدرة على إنجاب الأطفال وإرضاء الرجل الحاكم، وتتقمص هذا النزاع اليومي العديد من الشخصيات المتنافرة، من بينها ”للاّ عايشة“ أم الباي وزوجته الثانية ”تاج“ مقابل زوجته الأولى ”للاّ منانة“ التي لم يعد باستطاعتها إنجاب أمراء جدد. كما تَدفع الدراما بلعبة الشرف التي تنظمها قصة من خارج السياق، تخوضها الخادمة ”عَربية“ التي وقعت في حب أحد أبناء الأعيان وأنجبت منه طفلا لتضطر بعدها إلى الزواج بحرفي بسيط درءا للفضيحة، وتستهلك هذه القصة تقريبا الحلقة الخامسة بأكملها، كأهم حدث تاريخي في عيون منتجي “تاج الحاضرة”.
أما الخط الأحمر لهذا المسلسل “التاريخي”، فهو الحديث عما أرسله الخليفة العثماني من أموال طائلة لخزينة “البايليك” حتى تهدئ السكان فوضعها الباي بين يدي مصطفى خزندار الذي أودعها بدوره كمال خاص ثم إستحوذ عليه!
والبايليك هي بيت المال في إيالة تونس ضمن حكم الدولة العثمانية، وهي لفظة تركية أصلها “بايلق” ومعناها الثروة والرفعة. ولكنها مع وجود حكام الفساد، صار لها معنى مغايرا، وهو “الباي ليك” بالعامية، ومنها رزق البيليك، ومعناه أنه نهب لكل مار.
بهذا الشكل، يعطي المسلسل الصورة الصحيحة والحقيقية لمن يرتضيه الغرب حاكما لتونس، حيث لا يضع “تاج الحاضرة” إلا على رأس أحد “أولاد مفيدة”، ولذلك كان اختيار “ولد مفيدة” لأداء دور “خيرالدين باشا” اختيارا صائبا…