تاريخ تونس: صراع الإرادة الرسمية مع الإرادة الشعبية

تاريخ تونس: صراع الإرادة الرسمية مع الإرادة الشعبية

ياسين بن علي

في تاريخ البلاد التونسية عدّة أحداث سياسية سمّاها المؤرخ التونسي عثمان الكعّاك رحمه الله بالأزمات الدينية يبرز فيها صراع بين الراعي والرعية والحاكم والمحكوم، وبعبارة أخرى فإنّ هذه الأحداث التاريخية تظهر صراع الإرادة الرسمية أي إرادة الدولة ومؤسساتها ضدّ الإرادة الشعبية.

ويضرب لنا الكعّاك رحمه الله – في مقال له في المجلة الزيتونية م6 عدد1- أمثلة منها: “أزمة النشوء وهي أزمة مرت بها تونس عند انتشار الديانة المحمدية بربوعها، ونستطيع أن نقولإنها بدأت سنة 27 وانتهت نهائيا على رأس القرن”، ويقصد بهذا أنّ الشعب استسلم عن طواعية للدّين الاسلامي واتّخذه عن قناعة (وبعد صراع طويل) عقيدة يعتقدها جازما ونظاما يسيّر حياته. ويذكر الكعّاك رحمه الله أزمة ثانية وهي: “أزمة اختيار مذهب ينضوي تحت لوائه العدد الأوفر من السكان، وذلك في القرن الثالث على عهد بني الأغلب عندما دفع التسامح الديني واجتهاد الأئمة إلى تكاثر المذاهب، وقد حلّ سحنون الأزمة بترجيح المذهب المالكي”, والحقيقة أنّ جمهور المسلمين اتّبع فقه سحنون لما رأوا فيه (وفي غيره من العلماء) من تصدّ لمذهب الحاكم الأغلبي القائل بخلق القرآن، فصراع سحنون رحمه الله مع المعتزلة والأجهزة الرسمية التي نصرت الفكر الاعتزالي وثباته على الحقّ (هو وإخوانه من العلماء) في وجه ظلم الحكام من أكبر العوامل التي جعلت جمهور الناس يميلون إليه وإلى المالكية، مما أنتج فصل المذهب المالكي الشعبي عن المذهب الرسمي. ثمّ يذكر الكعّاك رحمه الله أزمة ثالثة وهي أزمة الصراع بين المالكية والشيعة مؤكّدا انتصار “مذهب الشعب على مذهب الدولة”، وهذه حقيقة تاريخية أخرى تبيّن مدى الانفصال الذي كان حاصلا بين الشعب والدولة في البلاد التونسية، وتبرهن على رجحان كفّة الإرادة الشعبية على الإرادة الرسمية. فقد حرّمت الدولة العبيدية الفتوى بمذهب الإمام مالك واعتبرت ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن وحتى القتل، ففتكت بالعلماء وأرهبتهم، ولكن كانت النهاية سقوط الدولة العبيدية الخبيثة في تونس وانتصار الإرادة الشعبية.

ونضيف، عندما أصبحت البلاد التونسية ولاية من ولايات الدولة العثمانية، كان مذهب الدولة هو المذهب الحنفي، ولكن بقي الشعب وفيّا للمذهب المالكي ولم تستطع الدولة أن تؤثّر في الشعب وبقي المذهب الحنفي مذهبا للدولة ولبعض الأفراد والأعيان دون عامّة الناس. نعم لم يحصل في تلك الفترة ما يمكن وصفه بالصراع بين المذهبين، ولكن القصد هو عدم التمكّن من فرضه على الشعب رغم أنه مذهب الدولة.

ونعود الآن إلى واقعنا، لنقف على انتصار الإرادة الشعبية من خلال ثورة 14 جانفي 2011م، فقد أثبت الشعب التونسي أنه صاحب إرادة حديدية وتمكّن رغم القهر والطغيان من إسقاط طاغوت بن علي، ثمّ أظهر بعد الثورة حرصه على دينه وهويّته الإسلامية، فشهدت البلاد مظاهر صحوة إسلامية تتمثّل في الإقبال على المساجد، وطلب العلم الشرعي، ومحاولة إعادة التعليم الزيتوني، وانتخاب من ظنّ فيه الخير لمرجعيته الإسلامية (وإن خاب ظنّه فيه بعد استلام الحكم)، والوقوف في وجه قوانين تبيح المثلية وتغيّر الميراث الشرعي، وخروج المسيرات المطالبة بتحكيم الشريعة، وغير ذلك. ولكن الثورة لم تحٌّق للناس التغيير المنشود، وبرزت قوى الدفع إلى الوراء المحاربة لهويّة الشعب مدعومة بالقوى الأجنبية الغربية، وانشغل الناس بقضايا وهمية وأخرى جزئية، ولكن كما مرّ معنا في حوادث التاريخ وحقائقه، فإنّ الإرادة الشعبية ستنتصر على الإرادة الرسمية، وطال الزمن أو قصر فسيتمكن الشعب بإذن الله تعالى من فرض إرادته. فقد انتصر الشعب في معركته ضدّ الكفر، وثبّت الإسلام دينا للبلد. وانتصر الشعب في معركته ضدّ البدع، وثبتّ الفكر السنّي منهجا للبلد. واليوم معركتنا مع اللائكية، وسينتصر فيها الشعب بإذن الله تعالى كما انتصر في المعارك التي قبلها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (محمد).

CATEGORIES
TAGS
Share This