تحرير العبيد في أمريكا: مبادرة إنسانيّة أخلاقيّة أم حسابات سياسيّة اقتصاديّة..؟

تحرير العبيد في أمريكا: مبادرة إنسانيّة أخلاقيّة أم حسابات سياسيّة اقتصاديّة..؟

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: في مثل هذا الشّهر ومنذ ما يزيد عن قرن ونصف حُظر الرّق في الولايات المتّحدة الأمريكية وأُلغيت المنظومة التّشريعيّة المتعلّقة به: فبتاريخ 18 ديسمبر 1865 وبعد انتصار ولايات الاتّحاد الشّمالية على كنفدرالية الجنوب في الحرب الأهليّة، صادق الكونغرس الأمريكي على التّعديل الثّالث عشر للدّستور بمبادرة من الرّئيس (أبراهام لنكولن) وأصبح الرّق غير قانوني ووقع تحرير العبيد في كافّة الولايات بما يقطع عمليًّا مع حقبة كاملة من التّاريخ الأمريكي: فقد شكّل الرّق في أمريكا الشّمالية ظاهرة اجتماعيّة، إذ تمّ فيما بين القرنين (16م+19م) نقل ما يقارب 12 مليون إفريقي عبر الأطلسي إلى العالم الجديد تحت مسمّى (التّجارة الثّلاثية)…وقد شكّل هؤلاء ومواليدهم ثقلاً ديموغرافيًّا واقتصاديًّا لا يُستهان به: ففي عام 1860 بلغ تعداد العبيد أربعة ملايين نسمة ما يعادل 12% من مجموع السُّكان حتّى أنّهم مثّلوا أغلبيّة في بعض الولايات (65% في ولاية كارولاينا الجنوبيّة)…وبوصفهم يدًا عاملة قويّة وشبه مجّانية فقد مثّلوا عصب الاقتصاد الأمريكي القائم آنذاك على فلاحة القطن والتّبغ والسكّر والقهوة والحبوب، فسُخّروا لشق الطّرق وتهيئة الأراضي وزراعتها وبناء المستوطنات وجمع المحاصيل…من هذا المنطلق فقد نظّم (دستور 1787) تجارة العبيد ونصّ على العديد من الأحكام المتعلّقة بالرّق والاسترقاق: فأباح استعباد غير المسيحيّين وحظر تقديم المساعدة للعبيد الفارّين ونظّم تعويض المالكين وحدّد علاقة العبيد بالضّرائب وبالتّمثيل في الكونغرس…ولم يبزغ فجر القرن 19 حتّى كان الرّق يتّخذ صفة المؤسّسة المُدسترة المسنودة بمنظومة تشريعيّة وقضائيّة وسياسيّة قويّة ظاهريًّا، لكن تبيّن بحلول منتصف ذلك القرن أنّها هشّة: إذ سرعان ما تهاوت تحت وقع الحرب الأهليّة وضاعت في مزبلة التّاريخ…غير أنّه وبعد 152 سنة من حظر الرّق مازال النخّاس يستوطن عقول البيض، ومازال الأمريكيّون السّود ضحايا بشرتهم وأسرى ماضيهم العبودي، كما وسّع النّظام الأمريكي نشاطه ليستبعد العالم بأسره وينصّب نفسه شرطيًّا وسجّانًا  وجلاّدًا لشعوبه ـ لاسيّما الإسلاميّة منها ـ بما يجعلنا نتسائل عن مصداقيّة هذا التّحرير المزعوم للعبيد وعن الخلفيّة التي كانت وراءه: فهل هو مبادرة إنسانيّة أخلاقيّة نصرة للأمريكيّين السّود ورغبة في تحسين أوضاعهم، أم هو خطوة سياسيّة وراءها حسابات اقتصاديّة بحتة بين الشّمال الصّناعي والجنوب الفلاحي..؟؟؟

أوضاع مزرية

لئن اختلفت معاملة العبيد في الولايات المتّحدة باختلاف الفترة والمكان اللّذَيْن عاشوا فيهما، فإنّ ظروفهم الحياتيّة كانت في العموم سيّئة ومزرية وتتميّز بالوحشيّة والتّدهور واللاّإنسانيّة: فقد اعتُبروا بمثابة السّلع والبهائم المُعدّة للأشغال الفلاحيّة الشاقّة ولتهيئة القارّة الأمريكيّة البكر المتوحّشة، فتعرّضوا لظروف لا آدميّة تظافر فيها سوء التّغذية والمياه الملوّثة وورديّات العمل الطّويلة والمرهقة والبيئات غير الصحيّة والمعاملة القاسية ،بما حوّل حياتهم إلى جحيم أرضي…ولضمان إنجاز الأعمال المطلوبة وُكّل بهم حُرّاس غلاظ شداد مهمّتهم دفع العبيد إلى بذل أقصى الجهود باستخدام وسائل الضّغط والعنف: فكانوا يعاقبون دون سبب لتأكيد سيطرة الأسياد ،أمّا المتمرّدون منهم فكان مصيرهم العقوبات الجسديّة الوحشيّة المهينة للكرامة الإنسانيّة (جلد ـ حرق ـ تشويه ـ وشم بالنّار ـ اغتصاب ـ استغلال جنسي…) وقد تصل حدّ الإعدام شنقًا…وكان التّعليم محظورًا عليهم تمامًا لمنع التحرّر الفكري المفضي إلى المساواة والتمرّد، وكانوا محرومين من الرّعاية الطبيّة معتمدين على التّداوي الذّاتي بالطبّ الشّعبي التّقليدي الإفريقي…ورغم أنّ غالبيّتهم يتحدّرون من أصول إسلاميّة (غرب إفريقيا جنوب الصّحراء) فإنّهم أجبروا على التّنصير القسري وحُظرت عليهم الشّعائر الدّينية حتّى لا يتسنّى لهم التجمّع والتنظّم: فكانوا يتابعون القدّاس من شرفات الكنائس أو يجلسون في الصّفوف الخلفيّة…بل إنّ المبشّرين تواطؤوا مع الإقطاعيّين لتدجينهم: فبعد أن كانوا يندّدون بالرّق ويشجّعون على تحرير العبيد ونشر المسيحيّة بينهم، تغيّر خطابهم مطلع القرن 19 نحو دعم منظومة الرّق والمتمعّشين منها، وأصبحوا يرون أنّه (من العدل والحكمة أن يستمرّ العبيد في خدمة أسيادهم مع الأخذ بعين الاعتبار أنّهم في الأصل بشر) وصاروا يناشدون الأسياد (أن لا ينسوا مسؤوليّاتهم تجاه ممتلكاتهم من العبيد)…هذه الوضعيّة من النّبذ الأرضي والسّماوي دفعت بالعبيد إلى الغليان والتّململ الذي يُنذر بالإنفجار، كما دفعت بالفعاليات السّياسية والاقتصاديّة والعسكريّة إلى المراهنة عليهم ومقايضة تحريرهم ببعض المكاسب الاجتماعيّة…

حاضنة شعبيّة

لسنا نبالغ إذا اعتبرنا أنّ منظومة الرّق في أمريكا لديها أرضيّة خصبة ومناخ ملائم وحاضنة شعبيّة واسعة بحيث بلغت مرحلة متقدّمة من العراقة والتركّز أضحت معها عرفًا عامًّا: فهي ليست حدثًا معزولاً أو سلوكًا شاذًّا منحرفًا مقصورًا على فئة دون أخرى، بل هي ظاهرة ديموغرافيّة واجتماعيّة توسّعت تبعاتها لتطال ميادين الاقتصاد والسّياسة والفكر والتّشريع…وما كان لذلك أن يتيسّر لها لولا ائتلافها وانسجامها وتوافقها مع العقليّة التي كانت ـ ومازالت ـ سائدة في المجتمع الأمريكي: فالعبوديّة فيه تعتبر سلوكًا سويًّا وأمرًا بديهيًّا ومُمارسة عاديّة مقبولة من طرف جميع الشّرائح ، وهي إلى كلّ ذلك مدعومة بمناخ من العنصريّة البغيضة والاستعلاء القائم على العرق والدّين ولون البشرة (الأوروبيين البيض المسيحيين)، ناهيك وأنّها انحصرت في السّود الأفارقة وأحيانًا في الهنود الحمر… أمّا على مستوى النّخب السّياسية والفكريّة فقد انعقد حول الاسترقاق والعبوديّة رأي عام منبثق عن وعي عامّ أي موقف مستند إلى تأصيل مبدئي عقائدي: سياسيًّا كان الصّوت المساند لتحرير العبيد خافتًا وضعيفًا ومعزولاً يغرّد خارج سرب الوسط السّياسي الأمريكي،فالجمهوريّون الشّماليون هم وحدهم الذين يمثّلونه، ولم يكن ذلك منهم بخلفيّة إنسانيّة أخلاقيّة عاطفيّة بل بخلفيّة اقتصاديّة مصلحيّة ضيّقة…أمّا بقيّة الأطياف السّياسية فقد كانت إمّا مع الرّق صراحة (الدّيمقراطيّون الجنوبيّون) أو مع الرّق لأنّ هيبة الدّولة ووحدتها يقتضيان ذلك (الدّيمقراطيّون الشّماليّون والحزب الدّستوري…) أمّا فكريًّا فإنّ الجدل حول مسالة الرّق انحصر في موقفين أساسيّين مساندين للظّاهرة، يتفاوتان في الشّحنة ويتّفقان في المساندة: الموقف الأوّل يرى في الرّق خيرًا مطلقًا وفائدة عميمة على المجتمع، وقد نظّر لهُ بالأساس (جيمس هاموند ـ جون كالهون ـ جورج فيتسيو…) ومن حججهم المبرّرة لرأيهم أنّ (الزّنجي ليس أكثر من طفل ينمو ويحتاج لمن يقوده) وأنّه (في كلّ مجتمع لا بدّ من وجود أشخاص لتنفيذ الأعمال القذرة وبدونهم لا يمكن لنا أن نتقدّم إلى الأمام) وأنّ العبيد (لا يمكنهم التّعايش مع العالم الحرّ لأنّهم كُسالى ولا يقدرون على منافسة الذّكاء الأوروبي للعرق الأبيض)…أمّا الموقف الثّاني فيرى أنّ الرّق شرّ لا بدّ منه: فالتّحرير المفاجئ للعبيد قد يضرّ بالمجتمع والاقتصاد أكثر من الإبقاء على الرّق…ومن أنصار هذا الموقف الأب المؤسّس (توماس جفرسون) الذي يقول (نحن في موقف لا نحسد عليه فلا يمكننا الاحتفاظ بالرّق ولا إلغاؤه دون أضرار: لدينا العدالة من جهة وإيثار الآخر من جهة أخرى)…والصّحفي (توكفيل) الذي يرى أنّ (السّود العبيد أفضل حالاً ممّا كانوا عليه في إفريقيا أخلاقيًّا وماديًّا واجتماعيًّا)… والسّؤال المطروح هو كيف لمثل هذا الخضم الفكري السّياسي المعادي لتحرير العبيد صراحةً أو كنايةً أن يفرز من يُعدّل الدّستور ويلغي الرّق..؟؟

 

العتق المشروط

لقد شهد تاريخ المستعمرات الأمريكيّة العديد من المبادرات السّياسية أو العسكريّة لتحرير العبيد السّود، لكنّها كلّها كانت مبادرات مشروطة لا تنمّ عن التزام أخلاقي إنساني طوعي مناهض للعبوديّة، بقدر ما كانت تتنزّل في سياق حسابات الرّبح والخسارة تحت يافطة (رُبّ ضارّة نافعة ومُكره أخاك لا بطل)…أولى تلك المبادرات كانت أواخر القرن 18 وجاءت لعلاج الخلل الدّيموغرافي الذي كاد في بعض المناطق أن يهدّد الجنس الأبيض بالذّوبان في العرقيّة السّوداء: فقد شهدت تلك الحقبة طوفانًا من العبيد وانفجارًا سكّانيًّا للرّقيق وتجاوزت نسبته أحيانًا نصف السّكان…لذلك واستشرافًا منها للخطر المدمّر الذي قد يمثّله ذلك مستقبلاً على التّركيبة السّكانية، سعت المستعمرات الأمريكيّة منذ 1774 إلى حظر تجارة الرّقيق عبر الأطلسي أو الحدّ منها وإلغاء بعض قوانينها دون القطع مع الظّاهرة أو تحرير المستعبدين…ثاني المبادرات كانت أثناء حرب الاستقلال الأمريكيّة وتتنزّل في إطار (العتق مقابل الدّعم): فقد حاولت بريطانيا كسب العبيد إلى صفّها أثناء حربها ضدّ الانفصاليين، و استغلّت التوتّر المتزايد بين العبيد وأسيادهم لبثّ حركة تمرّدية في صفوفهم، فأعلنت سنة 1775 الأحكام العرفيّة ووعدت بالحرّية لجميع العبيد المساندين للتّاج البريطاني..ففرّ عشرات الآلاف منهم نحو الخطوط البريطانيّة ودمّروا المزارع وأثاروا البلبلة…وقد وفت بريطانيا بوعدها وأعتقت قرابة 20 ألف عبد ووطّنتهم بجزر الكاريبي…المبادرة الثّالثة كانت إبّان حرب 1812 بين الجيش الملكي والولايات المتّحدة الفتيّة وتتنزّل في إطار (العتق مقابل القتال): فقد استدرجت البحريّة الملكيّة العبيد للانضمام إليها والقتال في صفوفها مقابل وعد بضمان حرّيتهم…وقد حاول الآلاف منهم الاستفادة من العرض وبدؤوا يفرّون من أسيادهم ويلتحقون بالكتيبة الثّالثة المتمركزة في ولاية فرجينيا وجزر برمودا وترينداد وتوباغو…وقد خاضوا حملات الأطلسي مع البريطانيّين أو في وحدات قتاليّة خاصّة بهم…وبعد نهاية الحرب حرّرتهم بريطانيا ووطّنتهم في جزر الكاريبي أيضًا…

الحرب الأهليّة

أمّا كبرى المبادرات وأهمّها فهي مبادرة الرّئيس (أبراهام لنكولن) التي أدّت إلى نشوب الحرب الأهليّة الأمريكيّة وأفضت إلى إلغاء الرّق وتحرير العبيد (نظريًّا على الأقل)، وهي تتنزّل أيضًا في سياق المبادرات المشروطة وفي إطار (العتق مقابل اليد العاملة الصّناعيّة)…فالولايات المتّحدة الأمريكية وجدت نفسها منتصف القرن 19 في مفترق تاريخي اقتصادي منقسمة بين شمال صناعي حداثي في أوج صعوده يفتقر إلى اليد العاملة الكفيلة بنهضته الصّناعيّة، وجنوب فلاحي تقليدي يمتصّ القوى العاملة ويحتكرها ويكبّل طاقتها الإنتاجية بالعبوديّة…فبعد التقدّم الصّناعي في الآلات الفلاحيّة شهد الطّلب على القطن طفرة وارتفعت القيمة الاقتصاديّة للمزارع ممّا دفع بالمزارعين إلى التوجّه نحو الغرب والجنوب لاستصلاح الأراضي الجديدة، وقد تطلّب ذلك تهجير أعداد كبيرة من العبيد بلغت بين سنتي 1790 و1860 أكثر من مليون عبد وذلك على حساب إفراغ الشّمال والشّرق ممّا أحدث أزمة في اليد العاملة الصّناعيّة بهما…وقد اعكس هذا الوضع على الخيارات السّياسية في انتخابات 1860 في شكل صراع على القوى العاملة المكبّلة بالرّق بين الجمهوريّين الشماليّين الذين يريدون تحريرها من أجل إعادة استعبادها في مصانعهم، والدّيمقراطيّين الجنوبيّين الذين يريدون المحافظة على وضعيّتها العبوديّة من أجل استغلالها في مزارعهم…وقد حُسم الأمر للخيار الأوّل بفوز المرشّح الجمهوري (أبراهام لنكولن) فاستشرف الجنوبيّون الضّربة القريبة التي ستقلب التّوازن الاقتصادي لصالح الصّناعات الشماليّة، فأعلنوا انفصال الولايات الجنوبيّة عن الاتّحاد مخافة تدمير نظام تجارة الرّق الّذي يقوم عليه اقتصادهم، وكانت ضربة البداية للحرب الأهليّة الأمريكية…ومرّةً أخرى يواجه العبيد السّود محنة (العتق مقابل الدّعم والقتال) وتسيل دماؤهم بغزارة من أجل تحديد الطّرف الذي سيستفرد باستغلالهم…وبعد انتصار الإتّحاد حُظر الرّق في كامل الولايات المتّحدة بالتّصديق على التّعديل الثّالث عشر للدّستور في 18/12/1865…ولكن هل أدّى ذلك عمليًّا إلى تحرير العبيد..؟؟ وهل قطع ذلك فعليًّا مع الممارسات العبوديّة العنصريّة..؟؟   (يتبع)

بقلم: بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This