تداعيّات الجلسة العامّة للـ (غافي) إعادة تصنيف تونس من جنّة ضريبيّة إلى جنّة استثماريّة ربويّة

تداعيّات الجلسة العامّة للـ (غافي) إعادة تصنيف تونس من جنّة ضريبيّة إلى جنّة استثماريّة ربويّة

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال: بتاريخ الخميس 20/06/2019 انعقدت الجلسة العامّة لمجموعة العمل الماليّ الأوروبيّة ((gafi للنظر في ملفّ تونس وإمكانيّة إخراجها من قائمة الدول التي تشكو ضعفا ونقائص في منظومة مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال… وقد نظرت المجموعة في مدى تطبيق الحكومة التونسيّة لمجمل الإصلاحات التشريعيّة والهيكليّة التي طالبتها بها منذ أن أدرجتها في قائمتها السوداء في شهر فيفري 2018…هذا وكان مجلس وزاريّ قد انعقد منذ 28/02/2019 لمتابعة خطّة العمل المرسومة في الغرض والتأكّد من استكمال إنجاز كامل نقاطها في الآجال المحدّدة لها (جانفي 2019) بشكل ينال رضا المجموعة واستحسانها ويضاعف من حظوظ تونس في الخروج من القائمة السوداء للجنان الضريبيّة…وكما كان مُتوقّعا فقد أفضى اجتماع (الغافي) إلى الإقرار بسلامة المنظومة التّونسيّة لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (في مجملها)، ومن المرجّح أن يترتّب عن هذا الإقرار إخراج تونس من القائمة السوداء قبل موفّى السنة الجارية…وعلى هذا الأساس ستقوم المجموعة بزيارة إلى تونس في سبتمبر 2019 للتثبّت ميدانيّا من مدى التزام الحكومة التونسيّة بالإجراءات المنصوص عليها أوروبيّا ولا سيّما السجل الوطني للمؤسّسات… والسؤال الذي ينطرح بعد سرد حيثيّات هذا الخبر هو: ما الثمن الذي قدّمته تونس للاتحاد الأوروبيّ لقاء إخراجها من القائمة السوداء للجنان الضريبيّة..؟؟ أمّا الإجابة عنه فتقتضي منّا استعراض بنود خطّة العمل المفروضة على تونس حتى نعرف سبب إدراجها في تلك القائمة وتحت ذلك التصنيف ثمّ نستشرف ملامح ومواصفات وجهتها الجديدة بعد خروجها من القائمة الأوروبيّة…

(فلاش باك)

 وللتذكير فمنذ سنتين ـ وفي خطوة مخالفة لكلّ التوقّعات والتّحاليل السياسية ـ كان الاتّحاد الأوروبي قد أدرج رسميًّا (شريكته الاقتصاديّة المتميّزة) تونس ضمن قائمته السّوداء للجنّات الضريبيّة… فقد صادق وزراء ماليّة الاتّحاد المجتمعون في العاصمة البلجيكيّة (بروكسال) بتاريخ (05/12/2017) ـ بالإجماع ـ على قائمة من 17 دولة من ضمنها تونس تمّ تصنيفها كملاذات ضريبيّة آمنة وكيانات مارقة اقتصاديًّا ومتواطئة مع التهرّب الضريبي والإجحاف الجبائي.. وجاء ذلك التّصنيف ليزيد طين السّمعة السياسيّة والاقتصاديّة التونسيّة آنذاك بلّة : فقد أجمعت كافّة التّقارير الدّولية ـ وأهمّها تقرير فيتش رايتنغ ـ على إدراجها في آخر المراتب على جميع المستويات (الشّفافية ـ التّنافسية ـ الحرّية الاقتصاديّة ـ الائتمان ـ التّصنيف السّيادي…) لتجد نفسها في النّهاية جنبًا إلى جنب مع جمهوريّة مافيا المخدّرات بنما…

ومعلوم أنّ فكرة القائمة السّوداء للاتّحاد الأوروبّي تعود لسنة 2016 على إثر فضيحة وثائق بنما التي كشفت الجنّات الضّريبيّة وفضحت العملاء وأحرجت الأسياد والتُّبع على حدّ السّواء… على هذا الأساس ودرءا منها للمغامرات الماليّة الفاشلة وللمفاجآت الاقتصاديّة غير السّارة ،عمدت البلدان السّبع والعشرون المكوّنة للاتّحاد الأوروبّي إلى وضع قائمة موحّدة مشتركة بينها للجنّات الضّريبيّة بالاعتماد على ثلاثة معايير أساسيّة (الشّفافية الضّريبية ـ الإنصاف الجبائي ـ محاربة التحيّل الجبائي) وذلك من أجل اجتناب التّعامل معها والتّضييق عليها اقتصاديًّا وهرسلتها سياسيًّا مع الحرص على جعلها منبوذة موصومة إعلاميًّا بشتّى النّعوت السلبيّة درءًا للخطر الذي قد تمثّله على اقتصاديّاتها… هذا ابتداء: إلاّ أنّ ذلك الإجراء السياديّ الحمائيّ الوقائيّ (ظاهريّا) سرعان ما استحال في سوق الحسابات السياسيّة والمصالح الاستعماريّة إلى آليّة ضغط ضمن منظومة الابتزاز الدوليّ تُستخدم كسيف مسلّط على رقاب الدول المتهاونة في محاربة الصحوة الإسلاميّة والمتقاعسة عن فتح حدودها أمام النهب والاستثمار والدوّامة الربويّة الطّاحنة للسيادة والسلطان…

تداعيّات التّصنيف

ماذا يعني تصنيف تونس من طرف الاتّحاد الأوروبّي في القائمة السّوداء للملاذات الضريبيّة..؟؟ ماذا سيترتّب عن ذلك عمليًّا وميدانيًّا على مستوى معاملات تونس مع دول الاتّحاد..؟؟ ماهي انعكاساته على مستوى الاقتصاد والتّشغيل والعملة والتّنمية..؟؟ هل سيؤثّر على القروض والمديونيّة والمساعدات الأوروبيّة لتونس..؟؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا التّصنيف ليس مجرّد حكم معياري قِيَمي أو وصم أخلاقي سلبي، بقدر ما هو إجراء أوروبّي سياديّ استراتيجي ستكون له تداعيات اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة وحتّى أمنيّة كارثيّة ستزيد في تردّي الأوضاع التّونسيّة في ظلّ تفاقم العجز المالي للموازنات العموميّة… فمثل هذا الإجراء من شأنه أن يكون له مفعول (الدّومينو) بحيث تعمّ ارتداداته جميع المجالات الاقتصاديّة :أمّا ضربة البداية فستطال مباشرة الاستثمار الأجنبي الذي تتشبّث البلاد بتلابيبه بوصفه (المحرّك المحوري للنموّ)، إذ سيُفضي إلى عزوف المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في تونس وهروب عديد الشّركات الاستثماريّة خوفًا على مصالحها وسمعتها…كما ستكون لهُ انعكاسات رهيبة على التّصنيف الائتماني والسّيادي في خصوص كلفة الاقتراض بما قد يؤثّر حتّى على تسريح صندوق النّقد الدّولي لباقي أقساط القروض المسندة لتونس… وستطال التداعيات السّلبيّة كذلك وقف المساعدات الأوروبيّة والدّولية لتونس والعزوف عن استيراد بضائعها بما سيحدث عجزًا في الميزان التّجاري ونزيفًا في احتياطي العملة الصّعبة المتآكل بطبيعته… وبالنّتيجة سيزيد ذلك في تدهور الدّينار التونسي المنهار أصلاً وسيؤسّس للتضخّم المالي… هذا ودون أن ننسى التّداعيات السّلبية على سوق الشّغل خاصّةً مع تراجع الاستثمار والمساعدات والقروض بما سيؤثّر بالضّرورة على الاستقرار والأمن والسّلم الاجتماعيّين… هذه الانهيارات الاقتصاديّة والسّياسية والاجتماعيّة التي تنسل من بعضها تجعل من القائمة السوداء فزّاعة مرعبة لتونس وأداة ضغط وابتزاز سياسيّ فعّالة بين يدي المتكالبين على خيراتها، إلاّ أنّها لا تبرّر استهداف الاقتصاد التونسيّ من طرف أوروبا: أ فليست تونس شريكًا اقتصاديًّا متميّزًا للاتّحاد الأوروبّي..؟؟ ألم تُفصّل مجلّة الاستثمار التّونسيّة على مقاس المصالح الأوروبيّة وتُناقَش في البرلمان الأوروبّي قبل طرحها على مجلس (نوّاب الشّعب)..؟؟ ألم تكن الحوافز الاستثماريّة بضغط وتوجيه من الدّول الأوروبيّة وصندوق النّقد الدّولي..؟؟ ألم تكن هذه الأطراف تنتقد سابقًا الإجراءات الحمائيّة الجمركية ،فما الذّي جعلها تنقلب في مواقفها 180 درجة..؟؟

حديقة خلفية

إنّ الاتّحاد الأوروبي كان ومازال ينظر إلى تونس باعتبارها حديقةً خلفيّة ومجالاً حيويًّا وميدانًا للنّهب والاستثمار والاستغلال الرّبوي… إلاّ أنّه اصطدم بعد الثّورة بأرضيّة تشريعيّة وهيكليّة معرقلة وبيئة ثقافيّة وبشريّة معادية (ارتفاع معدّلات التهرّب الجبائي ـ تفشّي الفساد والمحسوبيّة ـ اللاّمساواة الجبائيّة والاختلال الضّريبي ـ الاحتفاظ بالسرّ البنكي والمهني ـ انعدام الشفافيّة في المعاملات المالية ـ تنامي الظاهرة السلفيّة والجهاديّة…) ممّا يعيق الاستثمار والإقراض وسائر مجالات النّهب ويساهم في إيجاد أرضيّة ماليّة ومؤسّساتية مكرّسة للإرهاب (تمويلات ـ جمعيّات ـ مدارس قرآنيّة ـ تسفير إلى بؤر التوتّر…) وعلى هذا الأساس ومنذ سنة 2014 بدأت الإنذارات الدّولية تُرفع في وجه تونس من طرف جهات مختصّة على غرار مجموعة الأزمات الدّولية ومركز كارنغي للسّلام… كما بدأت التّقارير تُدبَّجُ من طرف الهيئات الحقوقيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وتؤكّد على خطورة الوضع وظهور بوادر أزمة اقتصاديّة قد تفضي إلى تصدّعات اجتماعيّة وأمنيّة خطيرة… وقد تُوّجت هذه الحملة الدّولية بتصنيف تونس ضمن الجنان الضريبيّة والملاذات الجبائيّة الآمنة وبؤر غسيل الأموال وتبييض الإرهاب كشكل من أشكال الضّغط والابتزاز…وقد نجحت هذه الفزّاعة في إدخال تونس بيت الطّاعة الأوروبي رغم الضغط الشعبي المناهض والتّجاذبات السّياسية بين الفرقاء في الحكم والمعارضة…

خارطة طريق أوروبية

ولتبرئتها من تهمة هذا التّصنيف وإخراجها من قائمته السّوداء وتلميع صورتها دوليًّا رسم الاتّحاد الأوروبي لتونس خارطة طريق وخطّة عمل  تمهّد له السّبيل وتذلّل له العقبات لاستباحة البلاد والعباد والمقدّرات… وتتكوّن هذه الخطّة من خمس نقاط أساسية: أولاها المصادقة على القانون الأساسي المتعلّق بسجلّ المؤسّسات وهو عبارة عن قاعدة بيانات عمومية تعكس الحالة الماديّة والقانونيّة للمؤسّسة المعنيّة وتجمع المعطيات والمعلومات الخاصّة بها وتضعُها على ذمّة العموم ومؤسّسات الدّولة…ثانيتها إعداد وإصدار المبادئ التّوجيهية للّجنة التونسيّة للتحاليل الماليّة الخاصّة بالمهن غير الماليّة (عدول الإشهاد ـ تجّار المصوغ ـ الوكلاء العقّارييّن ـ الخبراء المحاسبين ـ المحامين ـ الكازينوهات…) ثالثتها المصادقة على القانون الأساسي المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال وإصدار قاعدة بيانات وطنيّة للعناصر والتّنظيمات الإرهابيّة وتجميد أموالها وأصولها… رابعتها إعداد وإصدار المعيار المهني المتعلّق بالتزامات الخبراء المحاسبين فيما يخصّ مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب علاوةً على إعداد أدلّة للمراقبين المعنيّين بالرّقابة على المهن الماليّة وغير الماليّة… خامستها رفع السّر البنكي في المطلق ورفع السرّ المهني للمحامين وبعض المهن الحرّة وذلك في تعارض صارخ مع مبدأ حماية المعطيات الشّخصية…

من المستفيد؟

نصل الآن إلى القراءة السياسيّة المستنيرة خلف سطور خطّة العمل التي قايض بها الاتّحاد الأوروبي إخراج تونس من قائمته السّوداء: ففي تفاصيلها تندسّ شياطين الاستعمار، وبين تلافيف بنودها وتوصياتها تكمن مصالح أوروبا أو ما يهدّد مصالحها في البلاد نزولاً عند القاعدة الذّهبية (ابحث عن المستفيد)… وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الإصلاحات التّشريعية التي فرضتها أوروبا لم تكن من أجل عيون تونس وإنّما من أجل تحويل تونس إلى بيئة صالحة للاستثمار خالية من الفساد المالي قادرة على سداد ديونها منزوعة المخالب مُستباحةً ممهّدةً للنّهب والسّلب فاقدةً للسّيادة والسّلطان ترتع فيها الشّركات الأوروبيّة وتبيض وتفرّخ دون رادعٍ ولا رقيب…

فقد شملت هذه (الإصلاحات) ثلاثة محاور كبرى: أوّلها يتعلّق بالشّفافيّة الماليّة وتسهيل مراقبة مداخيل المؤسّسات وبعض المهن الحرّة ومقاومة التهرّب الجبائي وذلك من أجل تخفيف الضغط على الحكومة ومنحها بعض الحلول لتوفير موارد مالية من القطاع الخاصّ تساعدها على الإيفاء بالتزاماتها المالية أمام المجتمع الدّولي (قروض) بما يمكّن أوروبا من النّهب بكلّ اطمئنان… المحور الثاني للإصلاحات يتعلّق بمراقبة التّمويلات المشبوهة والمال السياسي الموجّه للجمعيّات ـ خاصّةً منها القرآنية والدّعوية والتي لها علاقة بالتّسفير إلى بؤر التوتّرـ بما يقتضيه ذلك من وضع قاعدة بيانات للعناصر والتنظيمات المصّنّفة إرهابيّة وذلك من أجل إيجاد مناخ فكري وأمني ملائم للاستثمار والنّهب… أمّا المحور الأخير فيتعلّق بضبط شروط العمل والمعايير والأخلاقيّات المهنيّة لجميع المهن المتداخلة مع مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (الخبراء المحاسبين ـ المراقبين ـ المحامين ـ أعوان البنوك…) بما يفرض عليهم الإدلاء بجميع المعطيات المتعلّقة بزبائنهم إذا كانت متقاطعة مع شبهات الفساد المالي وذلك على غرار رفع السّر البنكي والسّر المهني لتسهيل النّفاذ إلى المعلومة… هذه هي المحاور الكبرى للإصلاحات الخاصّة بتونس، وهي تصبّ صراحةً في مصلحة الاتّحاد الأوروبي على حساب الشّعب التونسي وحريته وخيراته ومستواه المعيشي، إذ تندرج في خانة المثل الشعبي المعروف (إذا نصحك الجربي شطر النّصيحة ليه) بحيث تُخرج تونس من القائمة السّوداء للجنان الضّريبية وتُدرجُها في القائمة الحمراء للدول المستباحة الفاقدة للسيادة والسّلطان، وتحوّلها من جنّة ضريبيّة إلى جنّة استثماريّة ربويّة، أمّا أهل البلاد فسيُزجّ بهم في جهنم الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة…

أ.بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This