تراشق.. فتوافق.. فإرضاء المسؤول الكبير

تراشق.. فتوافق.. فإرضاء المسؤول الكبير

لن نأتي بالجديد إن قلنا أن السياسة في النظام الديمقراطي تقوم على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة, والغاية عندهم هي السلطة وغنائمها وملذاتها ومكاسبها, أما الوسيلة فهي الكذب والمخاتلة والدجل.. وهذه الآثام كلها طرق تؤدي إلى كرسي الحكم, هذا في النظام الديمقراطي عموما. أما بالنسبة لأذيال المستعمر في بلاد المسلمين فقد أضافوا طريقا أخرى لتلك الطرق, فإلى جانب الكذب ومشتقاته لهم طريق لا غنى عن السير فيها فهي الضامن الأكبر بل الأوحد بالنسبة إليهم للضفر بالفتات المتناثر حول كرسي الحكم. هذه الطريق هي نيل مرضاة المسؤول الكبير والحصول على عطفه وكرمه, لهذا تراهم يجدّون ويكدون لينالوا ولو النزر القليل من رضاه, ولا شيء يمكنهم من الوصول إلى هذا المبتغى غير الانصياع التام لأوامره والانتهاء عند نواهيه واتخاذه مع أفكاره ومفاهيمه أربابا يعبدون من دون الله. فهم لا يرون إلا ما يرا ولا يسمعون قولا غير قوله ولا يعلون مصلحة على مصلحته التي هي في النهاية مصلحة بلده وشعبه. وكي  يتيسر لهم السير في تلك الطرق وسلكها دون عوائق أو عقبات صنعوا معبرا يوصلهم إلى تحقيق مآربهم ويمكنهم وهم يهمون بعبوره أن يتزودوا بكل ما تسمح لهم به السياسة بالمفهوم الديمقراطي وهو الخداع والنفاق لأن حصاد الأصوات لا يكون وفيرا إلا متى كان منسوب النفاق والدجل على درجة عالية وعالية جدا, وإلا لن تنطلي حيلهم على الناس وتحديدا أولئك الذين أرهب بصائرهم قبل أبصارهم سحر الديمقراطية وآمنوا بانتخاباتها ومن ثمة طمعوا وهم غافلون في خيراتها.

تونس نموذجهم المنشود

حين هبت رياح الثورة على ربوع تونس وعصفت بعرش “بن علي” دبّ الخوف والذعر في صفوف القوى الاستعمارية, خاصة وأن تلك الريح تحولت إلى إعصار بلغ مداه ليبيا ومصر واليمن والشام  وبات من الصعب التكهن بوجهته القادمة وأين سينتهي به المطاف، وبات المستعمر مهددا في وجوده بين ظهراني المسلمين وأصبح دحره وكنسه من بلادهم أمرا متاحا وممكننا. لهذا جمعت تلك القوى مكرها وكيدها وأخرجت من قمقمها الوحش الذي كانت قد سلطته علينا طيلة عقود, ولكن بعد أن أغرقته في المساحيق لتخفي قبحه وبشاعته وأوكلت أمر ركوبه وتوجيهه إلى وكلائها, وكانوا من الذين أحسن الناس بهم الظن لكونهم تستروا بالإسلام وذهب في اعتقاد الكثيرين أنهم سيحكمون بما أنزل الله إذا ما هم وصلوا إلى الحكم ولم ينتبهوا إلى أن ما يمتطيه أولئك المتأسلمون هو الوحش ذاته الذي دهستهم حوافره طيلة حكم “بورقيبة” ومن بعده “بن علي” ونعني النظام الديمقراطي الوضعي.

وبعد فترة انتقالية تمكنوا خلالها من صياغة دستور يكرس النظام الديمقراطي مما يخدم القوى الاستعمارية ويقوي من نفوذها, انتقلوا إلى مرحلة تثبيت منظومة الفساد والإفساد التي ثار عليها أهل تونس وحسبوا أنهم كنسوها إلى الأبد ودون رجعة. أعادتها العلمانية الملتحية صاحبة الأيادي المرتعشة تحت جناح ظلمة التوافق وأدخلتها مرابض الحكم الثلاث “قرطاج والقصبة وباردو” وشاركتها جريمة إعادة البلاد والعباد إلى نفس المربع الذي أذاقهم “بن علي” بين أضلعه الويلات وجرعهم مرارة الفقر والجهل وسقاهم الذل والهوان. فعلوا ذلك لأن المسؤول الكبير لا يطمئن لمصالحه إلا أذا كان من خبِروا الفساد وتربوا على بيع ذممهم مصحوبة بالبلاد وخيراتها في كل المزادات معلنة كانت أم غير معلنة، ماسكين بدواليب السلطة, وكان له ما أراد عن طريق بقايا منظومة “بن علي” متمثلة في ” حركة نداء تونس” بزعامة “الباجي قائد السبسي” وريث “بورقيبة” صنيعة المستعمر. وما كان لمنظومة السوء أن تعود لسدة الحكم لولا التواطؤ المفضوح من فئة تخفت خلف الإسلام ولم تحمل رايته بل أعلت راية الديمقراطية وطعنت كل من وثق بها في الظهر. وحتى تبقى مصالح الاستعمار في مأمن سعوا أن يكون ما حصل في تونس نموذجا يقتدي به كل من ينشد التغيير ويتوق إلى الانعتاق من ربقة الظلم والاستبداد فيكون كمن استجارة من الهجيرة بالرمضاء ويقع في جبّ الديمقراطي النظام الوضعي مجددا بعد أن أغواه المسار الذي شهدته تونس وفتن بما يسمونه الانتقال الديمقراطي مع السلمي زائد سلس للسلطة الذي حدث في تونس وخطف بصره البريق الخادع للتوافق ومرادفاته.

عود على بدء

بعد التوافق بين المنتمين لمعسكر الإسلام زورا وبهتانا -حركة النهضة- وبين بقايا منظومة ” بن علي” -حركة نداء تونس- والذي دام خمس سنوات كان في الحسبان أن يتواصل بعد الانتخابات الأخيرة بأشكال مختلفة عن التوافق السابق وهذا ما يفسر عودة الشريكين إلى التراشق بالتهم، وكل طرف منهما  يلقي على الأخر باللائمة ويحمله الفشل في إخراج البلاد من أوضاعها المتأزمة والكارثية. وطفق كل حزب يتبرأ من شريكه ويصفه بأبشع النعوت تماما كما هو الحال قبل انتخابات 2014 والغاية هي استمالة أكثر عدد من الناخبين وكسب أصواتهم  فشيطنة وذمّ المتهافتين على سلطة بعضهم البعض من أهم الأسلحة الإستراتيجية لكسب معركة الانتخابات ومنها يستمدون وجودهم، وبمجرد أن تضع حربهم الانتخابية أوزارها يعود الود والوئام بينهم وينصرفون إلى تقاسم الغنائم على ضفاف مستنقع التوافق.

وبما أن “حركة نداء تونس” تفرق جمعها وتحولت إلى مزق وأشلاء كان لابد أن تجد “حركة النهضة” مع من تتراشق وتتبادل السب والثلب، ولم يطول بها الانتظار فقد وجدت في إحدى شظايا “نداء تونس” ضالتها وشريكها في خدمة المسؤول الكبير وله نفس مواصفات تلك الحركة غير المأسوف على تفككها وتلاشيها. فساد من الأخماس حتى الأذنين وهو “حزب قلب تونس” الذي ما إن تشكل حتى تبادلت معه “حركة النهضة” أعنف أنواع القصف وأشدها وأقسم قادتها أغلظ الأيمان بأنهم لا يمكن أن يتحالفوا مع الفاسد والفاسدين وإن أدى بهم الأمر إلى الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة. وفي المقابل أجزم القائمون على “حزب قلب تونس” بأن الموت أهون عليهم من التحالف مع الرجعية وقوى الردة ونحو ذلك مما جعل الكثيرين يصدقون ما سمعوا من الطرفين ويطمئنوا إلى حدّ كبير عن الثورة التي كاد التوافق يئدها إلى الأبد. لكن وبمجرد انعقاد أول جلسة عقدها البرلمان لانتخاب رئيسه.أطلت الأفعى من جحرها وشرعت في نفث سمها وحصل ما كان يخشاه الجميع, عاد التوافق مجددا وخيم ظلامه على المشهد وتحالف من أقسموا على أن لا يقاسموا مجرد جرعة ماء. فمن أجل أن يغنم رئيس حركة النهضة رئاسة مجلس نواب الشعب ويؤول “شرف” نيابته الأولى إلى حزب “قلب تونس” تحالف الخصمان وتقاسم أولى الغنائم في انتظار الغنيمة الكبرى عند تشكيل الحكومة ويهنأ الفساد في نظام الفساد وينام قرير العين, كيف لا وعين التوافق تحرسه ويد المسؤول الكبير ترعاه وتحميه داخل أسوار الديمقراطية ونظامها الوضعي الفاسد..

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This