ترجمة القرآن الكريم تحريف لمعانيه وطمسٌ لتشاريعه وتمزيقٌ للأمّة الإسلاميّة

ترجمة القرآن الكريم تحريف لمعانيه وطمسٌ لتشاريعه وتمزيقٌ للأمّة الإسلاميّة

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال : رابع المشاريع التّصفوية المستهدفة لكتاب الله وأكثرها التحافًا بحسن النيّة هو ترجمة القرآن الكريم إلى سائر اللّغات واللّهجات العالمية (لتقريبه من أذهان المسلمين الأعاجم وتوضيح معانيه السّامية لأصحاب الدّيانات الأخرى) كما يزعمون، وقد استند دعاة هذا المشروع إلى فريةٍ مفادها أنّ اللّغة العربيّة هي مجرّد قناة تبليغ لمعاني القرآن الكريم مثلها مثل باقي اللّغات ويمكن بالتالي استبدالها بأخرى دون حرج ودون أن يفقد كتاب الله صفته وقداسته وحجّيته ومرجعيّته باعتباره مصدر تشريعٍ ووحيًا لدُنيًّا مقدّسًا يُتعبّد به… واللاّفت للنّظر أنّ هذه العمليّة قد بلغت سرعتها القصوى إثر تفجيرات 11/09/2001 فارتفعت وتائر التّرجمات لمعاني القرآن الكريم وتفاسيره إلى معظم لغات العالم الحيّة منها وشبه الميّتة لاسيّما لغات الشّعوب الإسلاميّة غير النّاطقة بالعربيّة ولهجات الأقليّات العرقية في العالمين العربي والإسلامي…

النّظرة السّطحية المتفائلة لهذه الحيثيّات قد توحي بنزوع غربي صادق نحو الاستئناس بالإسلام في مظانّه دون وسيط يشوّهه وبسعي جدّيٍّ إلى تدعيمه وتعزيزه في صفوف المسلمين الأعاجم، بيد أنّ هذا الاستنتاج ـ على منطقيّته ـ يبقى مجرّد قياس مغرٍ مبني على مقدّمات متماسكة ظاهريًّا لكنّها لا تعكس بالضّرورة الحقيقة: ذلك أنّ هذه الموجة من التّرجمات قد سرت في أجواء قاتمة من (الإسلاموفوبيا) والعداء الهستيري للإسلام والمسلمين ـ عقيدةً ورموزًا وثقافةً ومقدّسات ـ والتّحرّش بالقرآن الكريم حدّ الإلقاء به في المراحيض… كما تزامنت مع الحرب الأمريكيّة على الإرهاب ومشروع دمقرطة العالم الإسلامي وتفتيته وإعادة تشكيل خارطته السياسيّة على أساس عرقي ومذهبي في إطار (الشرق الأوسط الجديد)، فهل يعقل عمليًّا ومنطقيًّا أن تحتمل الساحة السياسية ظاهرتين على طرفي نقيض ومن منبعٍ واحد: الحرب الشّعواء على الإسلام والمسلمين والاحتفاء بالدّيانة الإسلاميّة وبكتابها المقدّس..؟؟ لا مفرّ إذن من أن يكون أحد طرفي هذه المعادلة مسخّرًا لخدمة الآخر،لذلك لا بدّ لنا من أن نتسلّح بحسّ سياسي مرهف لفهم هذا العطف المفاجئ على الأقلّيات العرقية المسلمة وهذا الإصرار المريب على ترجمة كتاب الله إلى لغاتهم ولهجاتهم..

المدوّنة في الميزان

وحتّى لا يكون كلامنا من باب التنظير الفجّ أو الإغراق في نظريّة المؤامرة فسننطلق من استنطاق المنجز فعليّا أي من استقراء المدوّنة الحاصلة لتلك الترجمات ـ كمّا وأصحابا ودقّة وتوقيتا وعلاقة بالمشاريع الاستعماريّة ـ وإنّ أوّل ما يلفت انتباهنا منذ النظرة الخارجيّة لهذه المدوّنة هو تعدّد الترجمات إلى اللغة الواحدة :فمعاني القرآن الكريم تُرجمت أكثر من 800 مرّة إلى معظم اللغات واللهجات العالميّة منها 100 مرّة إلى الأورديّة و95 إلى الفارسيّة و80 إلى الأنجليزيّة و65 إلى التركيّة و35 إلى الفرنسيّة و30 إلى البنغاليّة و22 إلى الإسبانيّة و17 إلى الأندونيسيّة والألمانيّة والأذريّة والرّوسيّة و15 إلى الصينيّة والإيطاليّة و08 مرّات إلى العبريّة والأمازيغيّة… هذه الملاحظة المركّزة هي حجر الزّاوية في تحليلنا ،من رحمها الخصب تنسل سائر الاستنتاجات, لكن وبحكم ورودها مادّة خاما فإنّ استنطاقها يحتاج إلى إثرائها وتدعيمها…فمن المفيد جدّا للتحليل أن نعرف أوّلا أنّ أغلب هذه الترجمات صادر بشكل فوضويّ دون ضابط ولا رقيب ولا مراعاة لحرمة الكتاب وذلك عن دوائر غير إسلاميّة منها ما هو معروف بعدائه التقليديّ المبدئيّ الصريح والمعلن للإسلام (الصهاينة) أو في شكل مبادرات (فرديّة) من أطراف إمّا مشبوهة أو غير مؤهّلة أو منتسبة إلى هرطقات محسوبة على الإسلام (بهائيّة ـ قاديانيّة ـ أحمديّة…). وثانيا أنّ أغلب المترجمين يجهلون لغة الضّاد لسان القرآن الكريم جزئيّا أو كليّا ممّا اضطرّهم إلى تهميش النصّ الأصليّ في أعمالهم والاستناد إلى كوكتال من الترجمات بلغات مختلفة…

وثالثا أنّ أغلب تلك الترجمات قد اتّسمت في أحسن الحالات بالتحريف الشّديد الذي لا يرتقي إلى الاقتباس وفي أسوئها بالمسخ والتشويه والمغالطات الفظيعة المتعمّدة المثيرة للتقزّز والاشمئزاز على غرار ما أقدم عليه أحد المترجمين اليهود :فقد تعمّد ترجمة لفظة (رَحْمَة) في قوله تعالى (والله يختصّ برحمته من يشاء) بكلمة (رَحِم) أي رحم المرأة (هكذا)، ولكم أن تتخيّلوا المعنى الذي أصبحت تفيده الآية ومدى الاستهانة بالذّات الإلاهيّة المقدّسة والاستهتار بمشاعر المسلمين.. على ضوء هذه المعلومات تتحرّك فينا ماكينة الشكّ المنهجيّ والحسّ السياسيّ :فلئن كانت الترجمة إلى لغات متعدّدة مبرّرة ـ على الأقل نظريّا بحكم اختلاف الألسن ـ فإنّ تعدّدها وتكرارها في نفس اللغة الواحدة أمر يبعث على الحيرة والرّيبة ،فتلك العمليّة منظورا إليها من زاوية التذييل الآنف لها بالضرورة مضاعفات سلبيّة تمسّ بمصداقيّة القرآن وقداسته وحُجِيَّتِه وتهدّد بجديّة وحدة الإسلام والمسلمين بما هو النصّ المرجعيّ المؤسّس للديانة والباعث للأمّة…

مصداقيّة القرآن في الميزان

لئن كانت الغاية المنطقيّة من تعدّد الترجمة إلى نفس اللغة هي التنقيح والتعديل بغاية التجويد فإنّ تكرار تلك العمليّة عشرات المرّات (100 ـ 95 ـ 80 ـ 65 ـ 35…) بشكل متزامن دون أدنى تنسيق هي عمليّة أبعد ما تكون عن السيرورة الطبيعيّة للتنقيح نشدانا للأمثل والأقرب من النصّ الأصليّ ،بل هي عبارة عن إغراق متعمّد ومدروس للشّارع الإسلاميّ والعالميّ بفوضى من الترجمات المتباينة ـ شكلا ومحتوى ، روحا ومعنى ـ ممّا يُولّد الارتباك والحيرة ويزرع بذور الشكّ والرّيبة ويكرّس الاستهانة والاستخفاف بالنصّ القرآنيّ وينفي عنه لدنيّته وينزع من القلوب احترامه وتقديسه ويغري به متنا وتفسيرا…فالتعدّد يفترض التباين والاختلاف ويؤدّي حتما إلى التناقض والتعارض والتشويه ،كما يفترض الخطأ والسّهو وسوء الفهم والتقدير ونقص الدقّة في التعبير بحكم الاختلاف في خصائص اللّغات والتفاوت في قدرات المترجمين ـ فالترجمة خيانة في نهاية الأمر ـ وهذا باب مشرع على مصراعيه أمام الطعن في المصداقيّة المفترضة لذلك الكمّ الهائل من الترجمات ،طعن سرعان ما ينتقل إلى القرآن نفسه… فأن يوجد في باكستان 100 رواية للقرآن الكريم وفي إيران 95 وفي الدول النّاطقة بالأنجليزيّة 80 وفي تركيا 65… لا يقرّب دستور الإسلام من المسلمين الأعاجم ـ كما يُدّعى ويُرَوَّج له ـ بل يؤدّي إلى تمييعه وتعويمه ويكرّس الافتراءات التي أُلصقت به من أنّه نصّ محرفّ مليء بالمتناقضات متأثّر بأخطاء الرواة وأهواء الجامعين ونزوات السّاسة والنوازع المذهبيّة ،فلم يخل ـ شأنه شأن أي كتاب عاديّ ـ من الزيادة والنقصان والصنصرة والتصحيف. وهذا من شأنه أن يوفّر الأجواء ويهيّئ العقليّات لما يخطّط له التحالف المسيحيّ الصهيونيّ من ضرب لوحدة النصّ القرآنيّ ووضوحه عبر توظيف الترجمة أوّلا :للحيلولة دون اتصال المسلمين الأعاجم بالنسخة الأصليّة للقرآن الكريم بما هي كتابهم المقدّس وأداة تعبّدهم ومصدر تشريعهم الأساسيّ… ثانيا: لتحريف كتاب الله بين تلك الشّعوب وبذلك تتيسّر عمليّة تنقيحه وصنصرته وإخضاعه ـ كما أصحابه المسلمين ـ لمشروع الدّمقرطة… ثالثا: لتكريس الضبابيّة والغموض وتعدّد الرّوايات المفضي إلى تعدّد المصاحف فالمذاهب ثمّ الديانات وصولا إلى خلق مُسوِّغ مذهبيّ دينيّ جديد لتمزيق المسلمين وتفتيتهم ينضاف إلى المسوّغين العرقي ّ واللغويّ…

قداسة القرآن في الميزان

إنّ الثّالوث (لغة ـ إعجاز ـ قداسة) في القرآن الكريم متكامل إلى حدّ التماهي ،فبين أضلاعه تقوم علاقة تبادليّة متشابكة بحيث تفضي إلى بعضها البعض :فاللغة العربيّة هي منشأ الإعجاز القرآنيّ والإعجاز هو بدوره منشأ القداسة ،أي أنّ قداسة القرآن الكريم هي في نهاية الأمر رهينة اللغة العربيّة مصداقا لقوله تعالى (بلسان عربيّ مبين)…من هذه الزّاوية فإنّ الترجمة الفوضويّة المغرضة لا تؤدّي إلى تعويم القرآن وامتهانه وتعدّده فحسب ،بل تفضي إلى إلغائه وإعدامه بسلبه الصفة التي تجعل منه كتاب تعبّد ومصدر تشريع ألا وهي القداسة ،لأنّ هذه الأخيرة متولّدة أساسا عن اتحاد معنى الوحي مع اللفظ والتركيب والأسلوب والحرف والرسم العربيّ واقترانهما بشكل يفضي إلى النظم المعجز: فاللغة العربيّة في القرآن الكريم جزء لا يتجزّأ من المعنى بدونها يفقد إعجازه وقداسته ويصبح كتابا عاديّا لا تستقيم به صلاة ولا تصحّ عبادة ،كما يفقد ـ وهذا الأهمّ ـ مرجعيّته التشريعيّة كدستور تُستمدّ منه الأحكام والقوانين… فالاجتهاد هو بالأساس فعل في اللّغة العربيّة لأنّ المراد من خطاب الله هو ما دلّ عليه الكلام العربيّ بالفهم العربيّ للألفاظ والأساليب العربيّة ،أمّا الترجمة فهي ـ بالكاد ـ تفسير بلغة أجنبيّة لا يرقى لأن يكون مصدر تشريع ،لأنّ تغيير اللغة الأصليّة للقرآن لا ينقل إلاّ جزءا بسيطا من منطوقه فحسب فضلا عن مفهومه ،وبذلك يتجلّى الوجه القبيح للترجمة :فهي عمليّة سحب للقرآن من بين أيدي المسلمين الأعاجم وتحريف لمعانيه وطمس لتشاريعه وحيلولة دون فهمه وتفعيله وتفجير طاقته ،وهي بالتّالي تصفية جسديّة له ككتاب مقدّس يختزل عقيدة وشريعة ويوحّد أمّة…وهذه خدمة لا تُقدّر بثمن للجهود الغربيّة المبذولة في اجتثاث الإرهاب/الإسلام وتجفيف منابعه بوصفها رافدا فكريّا ثقافيّا حضاريّا للمناورات السياسيّة والجبهات العسكريّة المشتعلة في العالم الإسلاميّ…

وحدة المسلمين في الميزان

وتتجاوز المضاعفات الخطيرة للترجمة القرآنَ نفسَه لتطال أيضا الكيان العقائديّ والسياسيّ للمسلمين بحكم أنّه النصّ المؤسّس للمبدأ الإسلاميّ الذي قامت عليه دولة الخلافة الإسلاميّة :فهذه العمليّة تندرج في إطار تفكيك العالم الإسلاميّ الثريّ بالمذاهب والأعراق واللغات قبل إعادة تركيبه مفكّكا كقطع (البوزل) وفق مصالح الكافر المستعمر،وذلك أوّلا عبر الفصل بين العرب والعجم وفكّ الرّابط العقائديّ الذي يجمعهم (القرآن العربيّ) ،ثمّ ثانيا عبر تفتيت العالم العربيّ بتشجيع الأقليّات العرقيّة والإثنيّة المكوّنة لنسيجه البشريّ على الانفصال والحيلولة دون انصهارها مع العنصر العربيّ في بوتقة العقيدة الإسلاميّة…فبثّ النزعة القوميّة في تلك الأقليّات وإحياء لغاتها ولهجاتها الأحفوريّة وترجمة كتاب الله إليها هو من باب تزويدها بمقوّمات الانفصال و(أكسسواراته) قبل تجنيدها وتوظيفها وقودا لحرب الأمّة وإنهاك جسدها… ذلك أنّ المشاريع الاستعماريّة المستهدفة للمسلمين قد تكسّرت كلّها على صخرة العقيدة الإسلاميّة :فهي بمثابة الملاط والاسمنت المسلّح الذي شدّ ومازال لبنات العالم الإسلاميّ والبوتقة التي انصهرت فيها تلك الفسيفساء من الأعراق واللغات والإثنيّات رغم التقسيم الاستعماريّ المصطنع والقسريّ… وأمام استحالة انتزاع هذه العقيدة من صدور المسلمين فلا أقلّ من تحويلها من عامل بناء وتوحيد إلى معول هدم وتفرقة بفرقعتها من الدّاخل إلى إسلامات متناحرة… هذا المطلب يبدو عزيز المنال مادام النصّ المرجعيّ المؤسّس للعقيدة مُوَحَّدا ،فلا مفرّ إذن من المبادرة بضرب وحدة القرآن الكريم لخلق تعدّديّة مرجعيّة تفضي إلى شكل من التعدّديّة الدينيّة من قبيل لكلّ وطن إسلامه وقرآنه ولكلّ مذهب إسلامه وقرآنه وكذا لكلّ عرقيّة وإثنيّة وأقليّة لغويّة أو لهجيّة… وذلك عبر آليّات عديدة لعلّ أشدّها خبثا ومكرا فرض مذهب فقهيّ ورواية قرآنيّة لكلّ قطر وخاصّة الترجمة الفوضويّة المغرضة لكتاب الله…

أ.بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This