تحدثت كثيرا من المصادر الإعلامية والمالية عن تعويم الدينار التونسي، وقد “أكّد صندوق النقد الدولي أنّ قرار تعويم الدينار التونسي (العملة المحلية) قد تم اتخاذه ضمن المراجعة الثالثة من اتفاق الصندوق الممدد مع تونس. وأشار الصندوق في أحدث تقرير له، إلى أن السياسة النقدية المتبعة من قبل السلطات التونسية، ستكون لها نتائج إيجابية، من بينها كبح التضخم الذي من المتوقع أن يبلغ نهاية السنة الحالية 7.8 في المائة ليتباطأ في السنوات المقبلة، ودعا الصندوق إلى ضرورة التحكم في النفقات لتعويض تأثير صدمة أسعار النفط في الأسواق الدولية، وقال إن نسبة المديونية ستبلغ ذروتها خلال السنة الحالية، وذلك بتسجيلها نسبة 72 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؛ أي بارتفاع بنقطتين عن المتوقع نتيجة المرونة التي يشهدها سعر الصرف. وتوقع صندوق النقد كذلك أن تبلغ الديون الخارجية نسبة 93 في المائة سنة 2020، ثم تبدأ في الانخفاض، وسترتفع الاحتياطات من العملة الأجنبية إلى أربعة أشهر خلال السنة نفسها، بينما لا يزيد مستوى الاحتياطيات حاليا عن 76 يوم توريد، مشترطا أن يظل الدينار مصنفا “عملة عائمة”. وتمت الإشارة أيضا إلى أنه منذ المراجعة الثالثة أصبح سعر الصرف في تونس عائما، وهذا ما أدى إلى ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي حاليا ليبلغ حدود 2.822 دينار، فيما كان مقدرا من قبل بأقل من 2.5 دينار، كما أن اليورو الأوروبي ارتفع ليسجل نحو 3.267 دينار بعد أن كان أقل بقليل من ثلاثة دنانير” (عن موقع البوابة، بتاريخ 16/10/2018م).
ومعنى تعويم الدينار هو ترك سعره كعملة يتحدّد آليا من خلال العرض والطلب، فلا يتدخل البنك المركزي في تحديده إنما يتركه لسوق العملات والصرف بحيث يتحدد سعره مقابل العملات الأخرى كالدولار واليورو. وهذه العملية، عملية مدروسة منذ سنين حيث وافق صندوق النقد الدولي على منح تونس قروض بشرط التعويم، وفي هذا السياق يندرج قانون النظام الأساسي للبنك المركزي الذي تمت المصادقة عليه سنة 2016م ونصّ في فصله الثاني على استقلالية البنك المركزي كخطوة أوّلية نحو التوجّه إلى التعويم أي اتخاذ البنك المركزي قرار عدم التدخل في تحديد سعر الدينار.
إنّ تعويم العملة كحلّ اقتصادي رأسمالي نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي قد تكون له جملة أثار سلبية أو إيجابية على اقتصاد دولة ما؛ إذ ترتبط نتيجة التعويم من حيث الارتفاع والانخفاض في سعر العملة بقدرة الدولة نفسها الاقتصادية. وقد حدثت في التاريخ سوابق تعويم كثيرة، نجح بعضها وفشل أكثرها، ويمكن أن نأخذ مثل مصر التي عوّمت الجنيه فكانت أثار ذلك كارثية على الشعب المصري الذي أصبح يعاني الفقر بشكل مأساوي. وبالنسبة للحالة التونسية فإنّ التعويم قرار كارثي يتفق عليه أغلب علماء الاقتصاد؛ لأنّ تونس بكل بساطة لا تمتلك مقوّمات الاقتصاد القوّي الذي يخوّل لعملتها المنافسة بعد التعويم.
فتعويم عملة ما بكيفية ناجحة – وفق أسس الاقتصاد الرأسمالي نفسه – يتطلّب توفر جملة من الشروط: منها أن تكون الدولة مصدّرة لا موّردة بمعنى أن قدراتها الانتاجية التصديرية أكثر من حاجياتها الاستيرادية، ومنها أن تمتلك الدولة احتياطات كبيرة من العملة الأجنبية حتى تقدر على الدفاع عن عملتها ومواجهة سوق المضاربات عليها، ومنها امتلاك الدولة لسيولة نقدية بالعملة الأجنبية لتلبي حاجة الاستثمار والاستيراد وغير ذلك. وهذه الشروط كلّها لا تتوفّر في الاقتصاد التونسي بشهادة الدولة نفسها، ولهذا يعدّ قرار التعويم كارثة اقتصادية بأتم معنى الكلمة؛ إذ سيؤدي التعويم إلى تضخّم مديونية الدولة نتيجة انخفاض عملتها، وسيؤدي حتما إلى الغلاء الفاحش في الأسعار باعتبار أن تونس تستورد معظم حاجاتها الأساسية والثانوية من الخارج. وقد يظن ظان أنّ التّعويم سيأتي باستثمارات جديدة للبلد، ولكنّ الحقيقة أنّ تذبذب سعر العملة بعد التعويم كنتيجة منطقية لعدم تحقّق شروطه الاقتصادية، سينفّر رؤوس الأموال من الاستثمار لأنّ المستثمر لا يستثمر ماله في بلد يعاني التذبذب وعدم الاستقرار.
وختاما نقول: إنّ تونس أصبحت رهينة إرادة صندوق النقد الدولي الذي يملي عليها الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية (كدعم ما يسمى الحريات وفرض الضرائب وتعويم العملة وغير ذلك)، وكل هذه الشروط لا تخدم مصلحة البلد إنما هي مقدّمات لفرض الاستعمار بشكل جديد على البلد ولا أدلّ على هذا من حالة البلدان التي تعامل معها هذا الصندوق، كبنغلادش والمكسيك والأرجنتين، فمتى يعي السّاسة أنّ لا خير يرجى من الدول الاستعمارية، ومتى يدركون أنّ النهضة والتنمية والتقدّم لا يحقّقها عدو؟