تفاقم أزمة استفتاء كردستان وحدود الدم
في أعقاب الاستفتاء على الانفصال الذي أجراه إقليم كردستان العراق يوم 25 أيلول/سبتمبر الماضي، اتخذت حكومة بغداد إجراءات اقتصادية ضد الإقليم، كان أولها حظر الرحلات الدولية المباشرة مع الإقليم، تلاه فرض قيود مالية على أربيل جرى تخفيفها فيما بعد، في حين هددت تركيا بغلق معبرها الحدودي مع الإقليم، مما قد يعطل تدفقات النفط ومنتجات أخرى، تزامنا مع تهديدات إيرانية مماثلة، الأزمة أخذت بعداً آخر بدأ مع تحرك القوات الاتحادية العراقية الجمعة الماضية بتحركات عسكرية باتجاه “استعادة” مواقعها التي خسرتها بعد أحداث حزيران/يونيو 2014 في محافظة كركوك في شمال البلاد، حيث ذكر ضابط برتبة عميد، وهو أحد قادة الفرقة التاسعة في الجيش “باشرت القوات المسلحة العراقية حركتها تجاه استعادة مواقعها قبل أحداث حزيران/يونيو 2014″، في إشارة إلى المواقع التي استولى عليها الأكراد مستغلين هجوم تنظيم الدولة وانهيار الجيش العراقي في حينه، وهو ما أكدته حكومة كردستان أن بغداد تقوم بحشد قواتها لاستعادة حقول النفط في منطقة كركوك بالقوة. وتأتي هذه التأكيدات بعد أن أقدمت قوات البشمركة على إغلاق الطرقات الرئيسية التي تربط إقليم كردستان بمحافظة الموصل شمال العراق لفترة وجيزة إثر مخاوفها من هجوم محتمل.بينما هيمن هورامي كبير مساعدي رئيس الإقليم مسعود البارزاني في تغريدة له على تويتر ذكر أن “قوات البشمركة مستعدة بشكل كبير للرد على أي هجوم محتمل من قبل قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي”.
وهكذا أخذت الأزمة طابعاً تصعيديا عسكرياً قد يجر البلاد إلى حرب جديدة في ظل استمرار المناورات العسكرية بين بغداد وأنقرة وبغداد وطهران على أسوار الإقليم، وسط استمرار غلق المجال الجوي والحدودي وتصاعد التحذيرات من أزمة اقتصادية قد تحل بالإقليم إذا ما أغلقت كل من تركيا وإيران المنافذ الحدودية نهائياً، في حين جاء رد البرزاني على العقوبات والتهديدات التي وجهتها حكومة المركز للإقليم “بضرورة تغليب لغة الحوار وأن تحل المشاكل بالطرق السلمية بدل لغة التهديد والسلاح”، داعيا لـ”عدم استخدام دماء شبابنا الغالي من أجل الحصول على أصوات بالانتخابات وأن يتم اللجوء إلى خدمة المواطن بدلا من دق طبول الفتنة”. لقد أدرك مسعود البارزاني أنه أدخل الإقليم في نفق مظلم من الصعب الخروج منه وأنه لم يتوقع كل هذه المواقف السلبية من الدول الكبرى والمضادة من دول الجوار، فالإعلام الموالي له كان يتحدث قبل أشهر قليلة عن موافقة دول أوروبية وضوء أخضر من بريطانيا وفرنسا وأمريكا، التي أعطت السلطات الكردية في العراق كل الصلاحيات والدعم السياسي ومهدت لهذه المرحلة، كما تمهد اليوم للتطورات في الشمال السوري… ولذلك بات أسلوبه في الحوار أقل حدة مما هي عليه قبل الاستفتاء، وأبدى مرونة أكثر نتيجة لحجم المعارضة التي واجهها في موضوع الاستفتاء دولياً وإقليمياً وحتى على مستوى الإقليم نفسه، فقد واجه الاستفتاء معارضة شديدة من قبل خصومه ومنافسيه داخل الإقليم متهمينه بالمناورة باستخدام ورقة الاستقلال لتثبيت سلطته وتكريس زعامته وخصوصا من حركة التغيير التي رأت أن الاستفتاء الذي أجراه البارزاني هو “مشروع حزبي وغير قانوني”. فقد ذكر النائب عن حركة التغيير في البرلمان الاتحادي مسعود حيدر، إن الاستفتاء على مستقبل كردستان لا يمكن أن يجرى بمعزل عن نتائج دراسة الوضع الداخلي للإقليم، والوضع العراقي وحتى الظروف الدولية. ومع هذا، فإن الانتقادات الأشد لحزب البارزاني بشأن الاستفتاء جاءت من شريكه الأكبر في الإقليم، وهو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة رئيس العراق السابق جلال الطالباني حيث ذكرت النائبة آلاء الطالباني، رئيسة كتلة الاتحاد الوطني في البرلمان الاتحادي، أن البارزاني “يمارس سياسة التمويه والاستغفال للشعب الكردي في مسألة الاستفتاء بالإقليم”. وبناءً على ذلك فإنه لم يكن بالإمكان قبل أعوام قليلة، التعبير عن موقف مناهض لحلم الدولة الكردية من قبل فصيل سياسي في إقليم كردستان بهذا الوضوح. ولكن الظروف الاقتصادية والإنسانية المعقدة التي يعيشها السكان وسّعت هامش النقد.
إن عمق الانقسام هذا يجعل الدولة الكردية حلما مؤجلا، فليس ثمة إمكانية موضوعية للحديث عن «دولة» كردية موحدة مستقبلا مع هكذا انقسام ومعارضة دولية وإقليمية. خاصة وأن قراراً من هذا النوع ليس قرارا كرديا، أو حتى عراقيا فقط، إنما هو قرار إقليمي ودولي إلى حد بعيد ومرتبط بالدول الكبرى بصورة مباشرة والتي تملك جميع خيوط اللعبة وما الواجهات السياسية إلا أدوات للتنفيذ، وحتى لو أقيمت الدولة الكردية على أراضي إقليم كردستان العراق، فإن تلك الدولة ستعاني مما يطلق عليه الخبير رجائي فايد رئيس المركز المصري للدراسات والبحوث الكردية “عقدة جنوب السودان”، والتي يشرحها بالقول: “من يعارضون مسألة الاستفتاء والانفصال لديهم هذا الهاجس… جنوب السودان انفصل عن شماله، ولكنه أصبح دولة فاشلة… هناك صعوبة في أن تكون تلك الدولة قابلة للحياة. ستكون بمثابة جزيرة منعزلة عن العالم ومحاطة ببحر من الأعداء”، وبالتالي فإنه ليس من المتوقع إنشاء دولة للأكراد بالمعنى القانوني للدول وذلك لأن مشروع أمريكا بالنسبة للعراق هو أن يكون العراق دولة أقاليم فدرالية برباطٍ هش بين الأقاليم والمركز، أي يكون هناك تقسيم من الناحية العملية لإدارة الحكم في العراق، وأما من الناحية الرسمية فتبقى هناك دولة أقاليم فدرالية تسمى العراق… وأخيراً فإنه من المؤلم حقاً أن الرابطة الإسلامية التي كان يعز بها المسلمون، عرباً وعجماً، هذه الرابطة قد نجح الكفار المستعمرون في أن يقصوها عن حياة المسلمين وحلت محلها روابط منتنة، معاول هدم جعلت المسلمين أشتاتاً: الحروب فيما بينهم مستفحلة، والأخوة مغيبة! وهكذا نرى أن القومية هي معول هدم لبنيان الأمة، فكما كانت بالأمس معول هدم في الدولة الإسلامية فها هو الكافر المستعمر مستمر في استعمال هذا المعول لهدم ما بقي من كيان الأمة إذا استطاع… ومن ثم يجعل بلاد المسلمين ساحةً للصراع بين دوله الكبرى ووسيلة لإراقة الدماء من المسلمين، وضرب الإخوة رقاب بعضهم بعضاً.
لقد عاش المسلمون مئات السنين أعزاء بدينهم وأقوياء بربهم تجمعهم أخوة الإسلام، فكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي… كانوا عباد الله إخواناً، يجاهدون في سبيل الله… يدخل عمر العربي القدس فاتحاً، ويحرر صلاح الدين الكردي القدس من الصليبيين، ويحفظ عبد الحميد التركي القدس من دنس اليهود… هكذا يعز المسلمون، وهكذا يجب على من ألقى السمع وهو شهيد أن يكون ﴿إِنَّ فِي هذا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾.
بقلم: علي البدري – العراق