تكالب غربيّ على تونس: “اختلافهم مصلحيّ وتوافقهم ضدّنا مبدئيّ”
يمكن للمتابع للشأن السياسي العالمي أن يلاحظ أنّ الأزمة السياسية التي تعصف بالرّاهن التونسي والوضع الاقتصادي الذي باتت تداعياته تنذر بما لا يمكن توقّعه، صارت تحتلّ المرتبة الثانية في اهتمامات العالم الغربي برمّته، بعد المسألة الأوكرانية وحربها مع روسيا: إذ تقدّم الهمّ التونسي عندهم على أغلب اهتماماتهم الأخرى، حتى غدا هذا الاهتمام تدخّلا سافرا ومباشرا، بعد أن كان مواربا نسبيا، فصار كلّ طرف ـ أوروبيا كان أو أمريكيا ـ يقحم أنفه في كل جزئية ويقترح الحلول لها، بل ويخوض في سياسة البلاد العامة وما يجب على الحكم فيه أن يفعل، وإن غلّفت هذه التدخلات بغطاء النصيحة. والأخطر في كل ذلك أنّ دور الطبقة السياسية انحسر أمام هذه الهجمة الاستعمارية وتنافس الفرقاء الغربيين على الغنيمة، إذ لم يعد لأحزاب المعارضة وما يسمّى بالمنظمات المدنية، من دور إلاّ بعض التحركات الاحتجاجية الباهتة وبيانات استنكارية جوفاء، للتغطية على استراتيجيتهم العصماء والتي تقوم على انتظار ضغوط خارجية ستخلصهم من قيس سعيد، محذّرين “مخلّصيهم” من خطره على الديمقراطية. أمّا قيس سعيد، والوضع الاقتصادي المتهاوي زائد حالة الخوف من المجهول التي باتت تضرب كل شرائح المجتمع، وهو المشبع بالفكر الديمقراطي حدّ الهوس، كونه أستاذ القانون الدستوري، فلا يزال الحبل مرخيّا بين يديه، عساه ينجح فيما فشلت فيه الطبقة السياسية الفسيفسائية التي جُرّبت طيلة العشريّة السابقة، والموسومة اليوم بالعشرية السوداء، وأمام الضّوضاء التي تردُ عليه من كلّ الاتجاهات الخارجية، وقد استغرقته حروبه الدونكشوتية مع خصومه الداخليّين، وخُلُوّ جعبته من مشروع مجتمعي، بات لا يدري على أي ساق يرقص.
يأتي هذا الاهتمام الغربي، بالمنطقة عموما وتونس تحديدا، لما تمثله من خطر استراتيجي على مصالح الغرب، الحضارية والثقافية والاقتصادية، وبالتالي على هيمنته وتحكّمه بالعالم. لذا نجد أنّ كل الأطراف الغربية أجمعت على أنّ حلّ “المعضلة” التونسية، سواء كانت على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو حتى الثقافي، يتوقف على “معالجة المخاوف بشأن الديمقراطية”، كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ويمرّ حتما عبر بوّابة صندوق النقد الدولي. وهذا نائب رئيس الوزراء الإيطالي يصرّح دون مواربة أنّه اقترح خلال اجتماع مجلس الشؤون الخارجية الأوروبي تقديم المساعدة لتونس..فقال: “فدعونا ندفعها (هكذا) لإجراء الإصلاحات ولنمنحها 300 مليون يورو على الفور، ثم بعد أن نتحقق من الإصلاحات نعطيها 300 مليون أخرى ثم 300 أخرى”. وهذا يعني بكل بساطة، شراء ذمّة، وضحك على الذّقون. وأمّا الموقف البريطاني فقد عبّرت عنه صحيفة الغارديان، كدأب السياسة البريطانية في القتال من وراء جدار، وهي تعمل اليوم على ترتيب أوراقها على الساحة التونسية، حين قالت خلال شهر فيفري الماضي إنّ الولايات المتحدة والأمم المتحدة وألمانيا وعدة دول أخرى(!!) عبّروا عن قلقهم الكبير، من الهجمة الأخيرة على المكتسبات الديمقراطية الهشّة، التي شهدتها البلاد بعد الموجة الأولى للربيع العربي. إلاّ أنّ الموقف الفرنسي كان أكثر فجاجة، حين اعتبر ماكرون أنّ سعيّد “فعل ما لم يفعله أيّ مسؤول آخر” ألا وهو “تحييد الإسلام السياسي” وهو ما “يُحسب له سياسياً”.
وهكذا يأخذ الغرب الاستعماري موقفا مبدئيا واحدا ممّا يجري في تونس، والأفق الذي يجب أن تُجرَّ إليه بلادنا، لا يختلف طرف عن آخر في أقل الجزئيات، ويقوم هذا الموقف على قاعدتين:
الأولى: تعميق تبعية بلادنا والمنطقة كلها إلى العالم الغربي الديمقراطي الرأسمالي، بمزيد فرض وجهة نظره في الحياة على شعوبنا، وربطها بالمفاهيم المنبثقة عن وجهة النظر تلك؛ وفصلها تدريجيا عن وجهة نظر الإسلام عن الحياة، وتحطيم شخصيتها حتى تفقد خصوصيتها، وخيريتها على الأمم والمبادئ.
الثانية: الحيلولة القطعيّة دون عودة الأمة إلى الساحة الدولية، ولعب دورها السياسي المنوط بها شرعا، وذلك بالعمل، بكل الوسائل وتحت أي ظرف، على منع الأمة الإسلامية من استئناف العيش بالإسلام، بإقامة الخلافة من جديد. وهنا يجدر بنا التذكير بما كتبته مجلة الايكونوميست في عدد 8 مارس 1924، أي خمسة أيام بعد إسقاط دولة الخلافة، تحت عنوان إلغاء الخلافة، ما يلي: ” يمثّل إلغاء الأتراك للخلافة حقبة جديدة في توسّع الأفكار الغربية في العالم غير الغربي. لأنّ مبادئ السيادة الوطنية والفردية الغربية هي القوى الحقيقية التي سقط سيّئ الحظ عبد المجيد أفندي ضحية لها.” وأضافت: “الخليفة -من حيث النظرية والتطبيق- ملك مطلق يحكم عالما إسلاميا متّحدا لهذا يكاد من المستحيل أن يكون له مكان في ظلّ دولة وطنية (سواء أكانت جمهورية أو ملكية دستورية) يمتلك نواب البرلمان الممثّلون للشعب السيادة فيها“.
إلاّ أنّ هذه الوحدة النظرية تجاه العدوّ المبدئي المشترك، الإسلام وأمة الإسلام، تخفي في الحقيقة أنانية مفرطة وحقدا اسود، يحمله كل طرف نحو الطرف الآخر في عالمهم الديمقراطي الرأسمالي، حين تكون المواقف متعلقة بالمصالح والمنافع، فهنا تتعرّى الحقائق وتنكشف السوءات، مصداقا لقول العزيز الجليل: ” بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) ـ الحشرـ، فيعمد كلّ طرف إلى محاولة الفوز بالغنائم دون الآخرين. لذلك تباينت مواقفهم من السلطة والمعارضة في تونس، بحسب موقع كلّ دولة من أي فريق قربا وبعدا: فأمريكا بعد أن تزعّمت العالم الديمقراطي الرأسمالي، وبعد أن كنست النفوذ الاستعماري القديم ـ بريطانيا وفرنسا ـ من معظم مستعمراته، وبسطت نفوذها في تلك الأقطار، لم يبق أمامها إلاّ آخر معاقل النفوذ الأوروبي في إفريقيا، وشمالها على الأخص، باتت تتحرّك بتصميم صارم على اكتساح هذا المجال مستغلة الأخطاء المنهجية التي يرتكبها عملاء الاستعمار القديم، أمام مقاومة يائسة للدول الأوروبية منفردة أو ضمن تكتل الاتحاد الأوروبي، هذا الهيكل الذي شاخ قبل أن يكتمل نموّه، وزاد من وهنه تتالي الضربات التي تكيلها له الولايات المتحدة لإرجاع أشلائه إلى بيت الطاعة.
إلاّ أنّه ورغم هذه الأوضاع المذلّة التي تمرّ بها بلادنا، فإنّه من الممكن إيقاد صراع بين أهل المنطقة وبين الدول المستعمرة من أجل طردها من بلادنا وقلع نفوذها، بل وافتكاك المبادرة من بين أيدي أعداء البشرية ومصّاصي دماء الخلق، من أجل حمل نور الحقّ إلى الخلق كافة. ولن يتيسّر لأهل المنطقة، في تفلتهم، الخلاص من عبء الاستعمار إلاّ عبر إزاحة هؤلاء النواطير، وكلاء الكافر المستعمر في بلادنا، عن كواهلهم حتّى يصفو الكدر وتتّضح الرؤيا، فيبزغ فجر الحق من جديد، مع تسليمنا لقوله جل وعلا: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ ” (11) ـ الرعد ـ وجليل لطفه بنا حين يقول سبحانه: “ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ ٱلۡكَٰفِرِينَ” ((18 ـ الأنفال ـ
CATEGORIES كلمة العدد