ممّا لا شكّ فيه أنّ الرّبيع العربي الذي انطلق ذات 17 ديسمبر 2010 من الوسط الغربي التّونسي وأحزمة العاصمة الحمراء هو ثورة الأمّة قاطبة وإن تعدّدت بُؤَرُه وجبهاتُه واختلفت حيثيّاتُه وأطرافُه وتمظهُراتُه: فهذه الأمّة المكلومة تُكابد من مُحيطها إلى مُحيطها همًّا مشتركًا وتعاني من نفس العِلّة ألا وهي غياب تطبيق الإسلام والاكتواء بضنك الرّأسماليّة وما انجرّ عن ذلك من فقر وتهميش وذلّ وارتهان وتبعيّة.. هذا الاشتراك في الرّاهن وفي العلّة يفترض اشتراكًا في المصير وفي الدّواء الشّافي: من هذا المنطلق سرت في الأمّة رغبة جامحة في الانفلات من ربقة المنظومة الرّأسمالية الجشعة واعتراها حنين دفين للالتحام بعقيدتها الإسلاميّة المكبوتة وكانت الثّورة تُطبخ في وجدانها على نار هادرة ما فتئت تتلمّس سبيلها نحو الانفجار.. وما إن أُتيحت لها الفرصة في سيدي بوزيد حتّى انطلق مفعول الدّومينو مجتاحًا العالم الإسلامي غير معترف بأقفاص سايكس بيكو (تونس ـ مصر ـ ليبيا ـ اليمن ـ سوريا ـ البحرين..) فضلاً عن المحاولات الجزئيّة الفاشلة (المغرب ـ الأردن ـ موريطانيا ـ إيران..) تجسيدًا للحديث النّبوي الشّريف (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى)..
ولأنّها ثورة نامية وفي سيرورة وتواصل فقد تخبو نارها حينا وتستعر أحيانا، فتشهد بعض الكبوات والانتكاسات على غرار ما حصل في تونس ومصر وليبيا ـ دون أن يعني ذلك الفشل والهزيمة ـ أو تسجّل استفاقات وانتعاشات وهزّات ارتداديّة وما أحداث الجزائر والسودان ولبنان والعراق هذه الأيّام عنّا ببعيدة..ولأنّها كائن حيّ ينتقل ويتطوّر ويقتبس ويتّعظ وينزجر ويفكّر ويخطئ ويصيب، فإنّها مافتئت تجوّد عطاءها وتحسّن مردودها وترشّد خطّ سيرها من جبهة إلى أخرى كلّما تقدّمنا في الزّمن مستفيدة من أخطاء التجارب الرياديّة متحسّسة طريقها شيئا فشيئا نحو الكمال ومشروع الأمّة: خلافة راشدة على منهاج النبوّة.. فما هي أهمّ الأخطاء التي أدّت إلى إجهاض التجارب الأولى..؟؟ وما هي أبرز ملامح الوعي والنّضج في التجارب الحاليّة المتأخّرة..؟؟
الثورات المضادّة
وكون الثّورة أمميّة إسلاميّة بامتياز يمثّل خطًّا أحمر لا يهدّد الكافر المستعمر في مصالحه فحسب بل وفي وجوده من أساسه، لذلك سعى جاهدًا منذ البوادر الأولى للثورة إلى وأدها في مهدها أو الالتفاف عليها وإفراغها من محتواها أو ركوبها وتوظيفها، فانخرط في ثورات مضادّة لامتصاص الحالة الثّورية وإعادة البلاد والعباد إلى بيت طاعته منطلقا من مهد الرّبيع العربي لتشويه نموذجه وإسقاطه.. وقد اعتمد المستعمر عمومًا أربعة أساليب كبرى ملائمة لواقع وخصوصيّات كلّ جبهة وأوّلها المسار الدّيمقراطي في تونس الذي أفضى إلى وراثة المنظومة لنفسها عبر ترسانة تشريعيّة وقانونيّة (ثوريّة) بيّضت مجرميّ التجمّع ثمّ أعادت ضخّهم في الدّورة الحزبيّة والسياسيّة..الأسلوب الثّاني هو الصّراع الطّائفيّ الذي احتدم خاصّة في اليمن بالوكالة بين إيران ممثّلة في الحوثيّين الشّيعة والسعوديّة بتحالفها العربيّ ممثّلة في الحكومة السنيّة الشرعيّة لعبد ربّه منصور هادي..ثالث الأساليب هو القمع العسكريّ الدمويّ المسجّل في مصر محليّا وفي سوريا إقليميّا ودوليّا (روسيا ـ إيران ـ حزب الله ـ تركيا..).. رابع الأساليب هو الصّراع الدّولي وقد بلغ ذروته في الحالة الليبيّة بالوكالة بين خليفة حفتر رجل أمريكا التي تتحسّس موطئ قدم في شمال إفريقيا وفايز السرّاج رجل بريطانيا صاحبة الامتياز والأسبقيّة التاريخيّة..
وإنّ قبول الشّارع العربي ورضاه بهذه المخطّطات الاستعماريّة المسمومة ـ عن وعي أو بدونه ـ هو جماع الأخطاء التي أجهضت ثورات الأمّة: فهذه المشاريع قد التحفت برداء الشرع والدستور والقوانين والحقوق والواجبات والحريّات والانتخابات ومحاسبة الفاسدين ومكافحة الإرهاب وما إلى ذلك..للالتفاف على مطالب الثوّار وإفراغ الثورة من محتواها واستنطاقها بما لم تنطق وإعادة الطغاة وزمرتهم إلى الحكم مستغلّة جهل السواد وفاقتهم وحنينهم إلى الإسلام واصطفافهم المذهبيّ أو العرقيّ المتوارث ورغبتهم في الاستقرار والتنمية..ويمكن تلخيص تفاصيل هذه الأخطاء وحصرها في ثلاثة: وراثة المنظومة لنفسها, الفتنة الطّائفيّة, الاستقواء بالأجنبيّ…
لا للمنظومة القديمة
لقد كانت التّجارب الثّورية المتأخّرة على وعي تامّ بخطورة الوأد النّاعم للثورة عبر وراثة النّظام القديم لنفسه واستماتت في التصدّي له: فالاحتجاجات في الجزائر اندلعت ضدّ ترشيح بوتفليقة للعُهدة الخامسة ومنع أيّ إمكانية للتغيير عبر صندوق الاقتراع… ورغم سحبه لترشيحه وتعيين رئيس انتقالي مكانه إلاّ أنّ الشّارع لم يهدأ لأنّ السّلطة الفعليّة بقيت في يد المنظومة القديمة ممثّلةً في رئيس أركان الجيش (قايد صالح)…ومكمن الوعي هنا أنّ المتظاهرين رفضوا الاستحقاق الانتخابي المبكّر وتفطّنوا إلى الفخّ المنصوب من ورائه: فالمترشّحون كلّهم من جبهة التّحرير أو المستقيلين منها أو المنشقّين عنها، والضّمانات لإنجاز انتخابات نزيهة وشفّافة وسياديّة معدومة… لذلك طالبوا بفترة انتقاليّة تقع فيها تصفية كلّ رموز نظام بوتفليقة ومعاقبة الفاسدين وعودة الجيش إلى الثّكنات وتحييده عن الحياة السّياسية، وقد سُجٍّلَ عزوف جماهيري عن التّسجيل في الانتخابات باعتبارها خيانة وإجماع على مقاطعتها وصل حدّ تهشيم صناديق الاقتراع (طالبنا بإلغاء العهدة الخامسة فأعادونا إلى العهدة الرّابعة).. ورغم مماطلة الجيش وتضحيته ببعض أكباش الفداء لامتصاص غضب الشّارع (عبد الملك سلال ـ لويزة حنّون ـ سعيد ربراب ـ أحمد أويحيى ـ سعيد بوتفليقة ـ الجنرال توفيق…) إلاّ أنّ الشّارع لم يهدأ لأنّه على وعي تامّ بأنّ المحاكمات صوريّة ومجرّد ذرّ للرّماد على العيون للالتفاف على مطالبه… وكرد فعل طالب المتظاهرون بفتح ملفّات العشريّة السّوداء وتورّط الجيش ورفعوا شعارات تندّد بجبهة التّحرير وبمافيات عائدات البترول (يروحو قاع)…
تعميم للفائدة
هذا الموقف المبدئي يصدق أيضًا على باقي الجبهات الثوريّة المتأخّرة: فقد رفض اللّبنانيّون التحوير الوزاري الطّفيف الذي اقترحه ميشال عون كما رفضوا الأسماء المقترحة لخلافة رئيس الوزراء سعد الحريري كونها من المنظومة وندّدوا برموز الفساد (جبران باسيل ـ نبيه برّي ـ أمين الجميّل..) وتمسّكوا بالمطالبة برحيل كامل الطّبقة السياسيّة (كلّن يعني كلّن).. وطالب المتظاهرون العراقيّون باستقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وبرحيل جميع رموز الفساد..ومع تمسّك عبد المهدي بالكرسيّ ارتفع نسق المظاهرات حيث وقع الهجوم على المنطقة الخضراء ببغداد في ظلّ سقوط عشرات القتلى والجرحى، كما سجّل تدخّل دموي للميليشيات ضدّ المتظاهرين بكربلاء ممّا اضطرّ المرجع الشّيعي علي السّيستاني إلى دعوة عبد المهدي للاستقالة والانسحاب، وقد اقتُرِحت جملة من الأسماء لخلافته فرفضها المتظاهرون كونها أيضًا سليلة المنظومة.. أمّا في الجبهة السّودانيّة فقد أصرّت قوى إعلان الحريّة والتّغيير على عزل البشير وتنحّي الجيش وتسليم السّلطة للمدنيّين، ورغم أنّ المجلس العسكري عزل البشير وحاكمه وسجنه إلاّ أنّ الشّارع أصرّ على إقصاء الجيش من السّلطة إلى أن تمّ تنصيب شخصيّة مدنيّة تكنوقراطيّة في منصب الرّئاسة بصفة انتقاليّة (عبد الله حمدوك)…
لا للطّائفيّة والعرقيّة
ثاني الخناجر المسمومة التي طُعن بها الرّبيع العربي هو الطّائفيّة والعرقيّة، فقد عزف الكافر المستعمر على الوتر المذهبي لإجهاض الثّورات، وبرز هذا المنحى خاصّةً في الجبهتين العراقيّة واللبنانيّة إلاّ أنّ ناشطي الحراك الشّعبي تفطّنوا لتلك المحاولات وأفشلوها: ففي المثال العراقي وقعت المطالبة بإلغاء الامتيازات الطّائفيّة التي تتمتّع بها الميليشيات الموالية لإيران وتجعلها دولة داخل الدّولة (عصائب أهل الحق ـ سرايا الأشتر ـ فيلق بدر ـ الحشد الشّعبي..) كما أحرقت القنصليّة الإيرانيّة بالنّجف ورُفع شعار (اللّعنة على إيران) ووقعت المطالبة بنظام انتخابيّ جديد قائم على الاقتراع على الأفراد ونبذ المحاصصة الطّائفيّة على أساس الأقاليم…نفس الموقف سُجِّل في المثال اللّبناني: فقد هوجم النّظام الانتخابي الطّائفي الذي ينصّ على أنّ رئيس الوزراء يجب أن يكون سنيًّا مرضيًّا عنه سعُوديًّا، وقد استخفّ المتظاهرون بتهديدات حسن نصر الله وعندما تحرّش بهم حزب الله جنوب بيروت تصدّى له الشّباب الشّيعي نفسه..وقد تميّزت التحرّكات اللّبنانيّة بالوحدة والانسجام والالتحام بين مختلف الطّوائف مع المطالبة بتغيير نظام المحاصصة الطّائفيّة واستبداله بنظام الاقتراع على الأفراد وإسقاط المنظومة السياسيّة المنبثقة عن اتّفاقيّة الطّائف (1991) التي رسّخت ديكتاتوريّة الطّوائف والأوليقارشية المذهبيّة.. أمّا في الحالة الجزائريّة فكان الوعي على النّاحية العرقيّة التي ركّز عليها الاستعمار وأذنابه: فإزاء محاولات النّظام افتعال فتنة بين العرب والبربر عبر إصدار مرسوم يمنع رفع الأعلام الأمازيغيّة توحّدت جميع الطّوائف والأعراق ووقفت صفًّا واحدًا (عرب وأمازيغ ـ مالكيّة وإباضيّة ـ شاويّة وقبائليّة..) ورفعوا شعارات وحدويّة من قبل (تحيا الجزائر) أو (نوفمبريّون وباديسيّون) كما رفعوا صور الشيخ مالك بن نبي والشهيد العربي بن مهيدي في إشارة إلى وفاء الحراك الشّعبي للهويّة والأصالة والعقيدة..وبذلك تكسّرت كلّ محاولات الاندساس والتحريف على صخرة الوعي الاستثنائي للثوّار والذي فاق كلّ التوقّعات…
لا للتدخّل الأجنبي
إنّ ما يثلج الصّدر فعلاً ويعدّ مؤشّر وعي مطَمْئِنًا هو ذاك الرّفض الكاسح للتدخّل الأجنبي الذي عرفته الجبهات الثّورية المتأخّرة: فهذه الجريمة التي اقتُرِفت ـ وما زالت ـ في حقّ الرّعيل الأوّل من الثّورات قد تنوّعت أشكالها بين التدخّلات النّاعمة (دسّ العملاء ـ وضع الدّساتير ـ فرض التّوافقات المسمومة ـ حرف المسار الثّوري ـ رعاية الانتخابات ـ حماية المسارات الانتقاليّة والدّيمقراطية ـ فرض المطالب الحقوقيّة والنسويّة والإنسانيّة..) والتدخّلات العنيفة (الاغتيالات السياسيّة ـ افتعال العمليّات الإرهابية ـ تسليح الفصائل ـ رعاية الانقلابات..) والتدخّلات العسكريّة الدّموية على غرار ما يحصل حاليًّا في سوريا وليبيا واليمن.. وسواء كان هذا التدخّل محسوبًا على (الأشقّاء) والجوار الإقليمي (السعوديّة ـ الإمارات ـ قطر ـ إيران ـ تركيا..) أو محسوبًا على القوى الاستعماريّة الدّولية (أمريكا ـ بريطانيا ـ روسيا ـ فرنسا..) أو محسوبًا على أذرع الاستعمار وأدواته الاقتصاديّة أو المصرفيّة أو المنظّماتيّة (صندوق النّقد الدّولي ـ البنك الدّولي ـ المنظّمات الحقوقيّة والإنسانية..) فقد سُجّل وعي غير مسبوق على حقيقته الاستعماريّة الهدّامة ورفض كاسح لهُ وفق أيّ شكل وتحت أي يافطة أو تعلّة: فقد رفض الجزائريّون تدخّل فرنسا في شؤون حراكهم وشنّوا هجومًا فيسبوكيًّا على القنوات الفرنسيّة (TV5 – TF1 – M6) التي تثير مواضيع حقوق المرأة في الجزائر والمساواة بين الجنسين والعنف ضدّ المرأة في الجزائر من أجل تحريف مسار الثّورة وتمييع قضاياها الجوهريّة كما رُفض التدخّل الفرنسي في الشّأن الثّوري اللّبناني أيضًا حتى من طرف المسيحيّين المارونيّين الذين هم في حمايتها.. واللاّفت للانتباه أيضًا رفض التدخّل الإيراني في كلّ من العراق ولبنان: فقد أحرقت القنصليّة الإيرانيّة في النّجف وطُرد حزب الله من الفعاليّات الثوريّة اللّبنانيّة.. وفي كلّ هذا ما فيه من مؤشّر على منسوب الوعي والنّضج المرتفع والمطمئن الذي يبلغ ذروته في تونس حيث يتجاوز الرّفض الأشكال السياسيّة والعسكريّة المفضوحة ليطال الأشكال الاقتصاديّة والمصرفيّة والثقافيّة الخفيّة…
فهل من مدّكر..؟؟
لا ندّعي أنّ هذه التّجارب قد بلغت مرحلة الاستنارة والكمال وأنّها تطالب بخلافة راشدة على منهاج النبوّة وتبحث لها عن نصرة ولكنّها خطوة واسعة وجديّة نحو تحقيق مشروع الأمّة، هذه الأمّة التي اختمرت وتعتّقت بحكم التجارب الميدانيّة الحيّة وآلاف التحاليل السياسيّة المطابقة للواقع فأصبحت مادّةً أوّلية خامًا يصعب قولبتها وتشكيلها من طرف الكافر المستعمر، وتربةً خصبة يسهل التّفاعل معها من طرف حملة الدّعوة وشباب الصّحوة الإسلاميّة، بحيث أنّ استئناف الحياة الإسلاميّة أضحى أقرب إلينا من حبل الوريد مرهونا في مشروع سياسيّ نابع من عقيدة الأمّة وفئة واعية مخلصة تحمله إليها بالشكل الذي يجعلها تلتحم به وتتبنّاه..والكرة بين يدي حزب التحرير…