تونس، بين موجة الحرائق وسياسة الأرض المحروقة
مسار “التصحيح” وجبهة “الخلاص”: صراع الديكة
بين تصاعد حدّة خطاب التهديد والوعيد الذي يطلقه زعيم مسار “التصحيح” ورئيس الدولة المترنّحة في تونس من جهة، ودعوات فتح دكاكين سياسية جديدة متمسكة بقشة الديمقراطيّة وحريصة على تشكيل جبهات الخلاص والإنقاذ من جهة أخرى، اندلعت في مختلف أرجاء البلاد موجة من الحرائق المتتالية، لتنغص على أبناء هذا الشعب فرحتهم بالعيد، وتزيدهم لوعة وحرقة على مصير بلدهم ومستقبل أبنائهم في ظل تصاعد لهيب الأسعار واكتواء الناس بنار الإجراءات الرأسمالية الجائرة التي تمليها مؤسسات النهب الدولي، إمعانا في اغتيال البلد اقتصاديا وإعلان إفلاسه بشكل رسمي. هذا دون أن ننسى حالة الطوارئ التي تعيشها البلاد رسميّا منذ سنوات…
وفي الوقت الذي تشير فيه الأحداث والسياقات بقوة إلى أنها حرائق مفتعلة وجرائم منظمة وليست حوادث تلقائية، فإنّ كلا الطرفين المتنازعين والمتصارعين على رفات الدولة التونسية المتآكلة، لم يدّخرا جهدا في خدمة الأطراف الدولية المتربصة بالبلاد والعباد، حيث يصرّ كلّ منهما على اتهام الآخر وتخوينه، وعلى تأزيم الوضع وتجييش الشارع عبر استعمال خطاب التقسيم والفرقة وإشعال نار الفتنة، (والفتنة أشدّ من القتل) ما يفتح الباب على مصراعيه أمام تدخل قوى الاستعمار الدولي.
فبينما اتهم الرئيس قيس سعيد بشكل مباشر “جبهة الخلاص الوطني” بالوقوف وراء الحرائق التي شهدتها البلاد مؤخرا، دون انتظار نتائج التحقيق، وذلك خلال زيارة أجراها إلى مقر وزارة الداخلية واجتماعه مع الوزير توفيق شرف الدين، وعدد من القادة الأمنيين، حيث أكّد أن “هؤلاء يتبعون سياسة الأرض المحروقة ويريدون حرق البلاد”، اعتبر القيادي البارز في حركة النهضة رفيق عبد السلام بأن جرائم الحرق العبثي تشير بأصابع الاتهام رأسا إلى التنسيقات المرتبطة بالقصر وهي التي تتصيد فرص بث الفوضى ومازالت تصول وتجول، وتهدد التونسيين بالويل والثبور وعظائم الأمور، بل أضاف بأن التسريبات متأتية من مديرة الديوان التي اختارها الرئيس بمحض إرادته وأنهي مهامها أيضا بمحض إرادته، وأن الصراعات تدور بين الشقوق المحيطة به من كل حدب وصوب، ومع ذلك فإن القصف العشوائي ومنسوب الغضب المرفق بالسب والتهديد موجه لرئيس جبهة الخلاص الوطني الأستاذ نجيب الشابي ولحركة النهضة (التي تم حرق مقرها بالعاصمة منذ أشهر قليلة).
ثم ختم تعليقه على كلمة الرئيس قيس سعيد من مقر وزارة الداخلية بالقول: “هذا شيء يعجز العقل عن فهمه، ولا يقوى المنطق السليم عن تفسيره، لكن للأسف هذه هي الظاهرة القيسية الفريدة من نوعها في تونس، ولله في خلقه شؤون”.
هكذا تستمر البلاد في السير على وقع هذا الانقسام الحاد منذ انطلاق مسار 25 جويلية، لتتكاثر الفضائح السياسية وتكبُر المعارك السياسية في البلاد وتتدحرج مثل كرة الثلج، دون أن يدرك أحد متى وكيف ستكون لحظة الارتطام بالحائط. بل يُواصل الجميع الغرق في مستنقع الرداءة السياسية وقذارة اللعبة الديمقراطية دون أدنى اعتبار بدروس الماضي، وتتظافر جهود أدوات الصراع السياسي في الإبقاء على هذا النظام الرأسمالي بوجهه العلماني القبيح متحكما في علاقات الناس ومعاشاتهم وأرزاقهم، وتُمسح جرائم هذا النظام الفاسد فيمن تداولوا على الحكم، مع أنه الخطر الداهم بل الخطر الجاثم على صدور أهل تونس منذ تنصيب بورقيبة.
الشعب يريد والغرب يريد
إنّ ما يجري اليوم على أهل تونس طيلة هذه السنوات، من مكر الدوائر الاستعمارية ووكلائهم في الداخل، ومن عقاب جماعي على خيار الثورة ضد نظام بن علي، لهو مخطط غربي خبيث يسعى إلى الانتقام من البلد الذي أطلق شرارة الثورات في أمة الإسلام.
أما الهدف من هذا المخطط فهو ثلاثة أمور:
أولا: الحيلولة دون إحداث تغيير جذري على أساس الإسلام يكون مثالا للحكم الرشيد ونموذجا مُتّبعا في المنطقة للخروج من دائرة التبعية الغربية ومن فلك النظام الرأسمالي العالمي.
ثانيا: منع عودة تونس إلى حاضنتها الطبيعية ضمن كيان الأمة الإسلامية، وبالتالي الحفاظ على واقع التقسيم وعلى منظومة سايكس-بيكو المتهاوية والتي قامت ضدها الثورات.
ثالثا: إطالة عمر النظام القائم ومنع سقوطه خدمة لمصالح الكافر المستعمر الذي يختار أنجب العملاء المتنافسين على إنقاذ هذا النظام، (بغض النظر عن جهة هذا المستعمر لأن ملّة الكفر واحدة).
وأما طريقة ذلك، فهو تخدير الشعب (وخاصّة قواه الحيّة) بحُقنٍ موضعية تُغيّب عنه الوعي بالإسلام وأحكامه وبطريقة الإسلام في التغيير، بحيث تنعدم قدرة الشعب على إدراك سبيل خلاصه وبالتالي قدرته على التحرك الجماعي في اتجاه الخلاص الجماعي الذي ينهي الحالة المرضية التي صارت عليها الأمة منذ غياب سلطان الإسلام.
هنا نأتي إلى اﻟﻌﻘﺎر اﻟﺴﺮّي اﻟﺘﻜﺘﻴﻜﻲ ﻟﻠﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮة، الذي صاغه الخبير الاقتصادي “ميلتون فريدمان” وهو ما بات يُعرف بـ” نظريّة الصدمة”…
يكفي في هذا الصدد استحضار أن أوّل ﺑﻠﺪ ﺗﻢ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺼﺪﻣﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ” ﺗﺸﻴلي” اﻟﺬي ﻛﺎن ﻧﻈﺎم اﻻﻗﺘﺼﺎد ﻓﻴﻪ شيوعيّا. حيث ﺑﺪأ اﻷﻣﺮ ﺑﺘﺪﺑﻴﺮ اﻧﻘﻼب ﻋﺴﻜﺮي ﻓﻴﻪ دﻋﻤﺘﻪ اﻟﻮﻻﻳﺎت اﻟﻤﺘﺤﺪة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺑﺮﺋﺎﺳﺔ ﻧﻴﻜﺴﻮن. ثم ﺑﻌﺪ اﻻﻧﻘﻼب ﺟﺎءت اﻟﺼﺪﻣﺔ: اﻧﺨﻔﺎض ﻓﻰ ﻗﻴﻤﺔ اﻟﻌﻤﻠﺔ، ارﺗﻔﺎع ﻣﻌﺪﻻت اﻟﺘﻀﺨﻢ واﻟﻐﺮق ﻓﻰ اﻟﺪﻳﻮن واﻧﺘﺸﺎر اﻟﻔﺴﺎد وارﺗﻔﺎع ﻓﻰ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت اﻟﺒﻄﺎﻟﺔ، اﻧﺘﺸﺎر اﻟﺸﻐﺐ، واﻋﺘﻘﺎﻻت ﺗﻌﺴﻔﻴﺔ، وﺧﻄﻒ ﻋﻠﻨﻲ ﻓﻲ وﺿﺢ اﻟﻨﻬﺎر، وﻓﻮﺿﻰ ﻋﺎرﻣﺔ ﻓﻲ اﻟﺒﻼد، ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺒﻼد ﺗﺴﻴﺮ ﻣﺴﺮﻋﺔ ﻧﺤﻮ اﻟﻬﺎوﻳﺔ ﺣﺘﻰ أُﺻﻴﺐ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﺸﻠﻞ ﻓﻲ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ واﻟﻔﻬﻢ ﻓﻠﻢ ﻳﻌﻮدوا ﻳﻔﻬﻤﻮن ﻣﺎذا ﻳﺠﺮي وﻟﻤﺎذا وﻛﻴﻒ اﻟﺨﻼص!
ﻓﻲ ﻟﺤﻈﺔ “الصدمة” ﻫﺬه ﺗﻢ ﻋﺮض اﻟﺤﻠﻮل اﻟﻤﻤﻨﻬﺠﺔ اﻟﻮاﺿﺤﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺘﻨﻘﺬ اﻟﺒﻠﺪَ ﻣﻦ اﻟﻜﺎرﺛﺔ وذﻟﻚ ﺑﺄن ﺗﺘﺤﻮل ﺗﺸﻴﻠﻲ إﻟﻰ اﻗﺘﺼﺎد اﻟﺴﻮق اﻟﺤﺮة، أي أن ﺗﺮﻓﻊ اﻟﺪوﻟﺔ ﻳﺪﻫﺎ ﻋﻦ اﻻﻗﺘﺼﺎد ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺎﻣﻞ. نفس النظرية تم تطبيقها على دول أخرى مثل الأرجنتين والبرازيل مرورا بالعراق ووصولا إلى لبنان.
اليوم في عهد العملات الرقمية والاقتصاد الوهمي، نسير بشكل جنوني نحو فرض نموذج ليبرالي متوحش يأكل الأخضر واليابس، ويكدس ثروة العالم بأيدي طغمة من أثرياء الغرب، وما سياسة الأرض المحروقة وإلهاء الرأي العام بالصراعات الشكلية الجانبية إلا جزء من مذهب رأسمالية الكوارث وطريقة لصعق الشعوب وتعريضها لصدمات متتالية تخضعها للحلول التي يمليها أرباب الرأسمالية العالمية ممن يرون في المشروع الحضاري الإسلامي تهديدا حقيقيا على الحضارة الغربية وعلى وجودهم، ولذلك لم يجد هؤلاء طريقة لخوض معركة البقاء أفضل من تدمير أوطاننا وسلب أحلامنا. فهل ستعي القوى الحيّة في تونس، على حقيقة هذا المخطط الشيطاني فتدرك سبيل خلاصها وتلتف حول من يقودها في مسار إتمام الثورة بالإسلام؟
سبيل الخلاص
ختاما، وجب التذكير بأن الدولة الإسلامية ليست مشروعا يتبخر في سجون الظالمين، ولا مجرّد شعار لحملة انتخابية ولا خيالا ً يداعب الأحلام؛ إنّما هي حقيقة امتلأت بها جوانب التاريخ في مدى ثلاثة عشر قرناً. كانت كذلك في الماضي، وتكون كذلك في المستقبل القريب، لأن ّ عوامل وجودها أقوى من أن ينكرها الزمن، أو يقوى على مصارعتها، وقد امتلأت بها اليوم العقول المستنيرة والقلوب الصادقة، وهي أمنية الأمة الإسلامية المتعطشة لتحرير فلسطين ولرفع راية الإسلام ونشر دعوته في ربوع الأرض.
وليست الدولة الإسلامية رغبة تستأثر بالنفوس عن هوى لمجرد التموقع السياسي، بل هي فرض أوجبه الله على المسلمين، وأمرهم أن يقوموا به، وحذرهم عذابه إن هم قصروا في أدائه. فكيف يُرضون ربهم والعزة في بلادهم ليست لله ولا لرسوله ولا للمؤمنين؟ وكيف ينجون من عذابه وهم لا يقيمون دولة تجهز الجيوش وتحمي الثغور، وتذود عن الأرض والعرض، وتنفذ حدود الله، وتحكم بما أنزل الله؟
قال تعالى: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ. (المائدة / 49-50)
إن الخلافة هي سبيل الخلاص، وطريق النهضة، وهي وحدها منقذة البشرية من جحيم الرأسمالية ومن اضطهاد الديمقراطية، فهي وعد من الله وبشرى من نبيّه صلى الله عليه وسلم. أما ما سواها، فهو ليس إلا عناوين فضفاضة وشعارات خادعة، تدّعي النهضة والخلاص والإنقاذ، وتسير في ركب النظام الرأسمالي العلماني إرضاء للكفار المستعمرين، لتصبح نارا حارقة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ”. (النور / 39).
المهندس وسام الأطرش
CATEGORIES محلي