منذ هروب الرئيس المخلوع عمل رجال الأعمال الفاسدون ومصّاصو دماء الشعب القدامى على تحصين أنفسهم من خلال انخراطهم في المشهد السياسي الجديد حتى باتوا عرّابين لحكوماتٍ وأحزابواستطاعوا تحقيق اختراق سهل والولوج في المشهد عبر أحزاب قديمة ادّعت النضالية أو أحزاب جديدة – قديمة يمثل جزء كبير منها استخلاصا للواجهة الحزبية القديمة أين كان الالتقاء بين رأس المال والسلطة. وتشكل مشهد سياسي ذو واجهة فسيفسائية في شخوصها وظيفية في جوهرها تحت طلب الاستعمار ورهن إشارته. حيث دفع الاتّحاد الأوروبي وبخاصّة بريطانيا بشخصيّات عديدة إلى مقاعد التوظيف السياسي لصالح الحاكم الحقيقي للبلاد أو “المسؤول الكبير” كما سماه قايد السبسي ذات اجتماع زلّ فيه لسانه أو ربما أنطقه ارتباك المشهد وتفلّته.
ورُكّبت قطع النظام السياسي على أعين ذلك المسؤول وبعثاته التي لا تكاد تفارق قصور الحكم تُعلّم “الحكام” الجدد وتوصي وتراقب وتضغط. قِطعٌ مَثلت أساسات الحكم الديمقراطي الذي طالما لهجت به ألسنة الحكام المُوَكَّلين المؤسِّسين لدستور شهد الجميع أنّه وُضع على مقاس مصالح الغربي وفي سبيل إرضائه. قِطع وأساسات لنظام استعماري متجدد امتدّت أياديها الآثمة لسرقة الثورة منذ بواكيرها ولكنها لم تتمكن من إخماد جذوتها فبقيت أنفاس الرفض والغليان وسط الشعب تتعالى أصواتها إلى اليوم، وبشكل خاص في الجانب المعيشي ومطالب العيش الكريم، فظل الجانب الاقتصادي طاغيا على عناوين الصراع وانشغلت الأذهان بحال الارتهان والتداين الذي أغرق البلاد وصار يهدد ببيعها للمتربصين بثرواتها وقوت أهلها من الطامعين الغربيين وشركاتهم وبنوكهم العملاقة الممثلة للتوحش الرأسمالي المدمر.
ربيع البنوك الدولية و«حكومات تابعة»
التأمت خلال الفترة من 12 إلى 18 أكتوبر الجاري الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وعلى غرار السنة الماضية التي فوجئنا فيها بادّعاء أهل الحل والعقد في تلك المؤسسات المالية الدولية حرصهم على “الرأفة” بنا نحن شعوب العالم النامي كما يقولون حيث كانت «معضلة الديون» على رأس جدول الأعمال نظرا لاستمرار تداعيات جائحة “كورونا”. لكنّها ليست صحوة ضمير أو طفرة شعور بالإنسانية بعثها الله في نفوس القائمين على القوى الاستعمارية النافذة وأذرعها في العالم من الصناديق المالية والبنوك الدولية لأنّ الجائحة ببساطة لم تهدّدنا نحن فقط بل هددت جميع بني البشر.
البنك الدولي وللعام الثاني على التوالي يدعي أنه يخصّص اجتماعه السنوي للنقاش المفتوح حول «بناء التعافي والانتعاش لتحقيق الشمول وتعزيز الصمود» كما جاء في شعار اجتماعات هذه السنة.
وقد أطلقنا الإنذار تلو الإنذار وقلنا وكتبنا أنّ “الحكام الجدد” الذين يدّعون الثوريّة ويزعمون أنّهم ما جاؤوا إلا لتحقيق أهداف الثورة، هؤلاء أسلموا قيادهم «للمستعمرين» يسوقونهم سَوْقًا إلى المهالك بالعصا والجزرة ويفرضون «المساعدة المسمومة» لتكون سبيلهم إلى التدخّل “الشرعي والقانوني” في بلادنا وفي وضع سياساتها وفرض السير بها.
ولقد كتبنا مرارا أنّ التصدّي للمستعمر هو الواجب وأنّه على السياسيين أن يتحلّوا بالجرأة على اتخاذ الخيارات التي تحمي البلاد وتنهض بها على أساس متين في إطار إرادة حقيقية للتغيير وتبرئة للذمة مما تسميه دول الاستكبار العالمي بـ«الديون الكريهة» ديون حقبات الاستبداد والدكتاتورية واعتبرنا أن اتخاذ قرار إلغاء تلك الديون ليس كفرا ولا تنكرا للدائنين ولا مسّا بسمعة تونس كما روج له قليلي الهمم وإنما حق وواجب لا بد من تأديته من قبل الحاكم إن كان يحكم فعلا ويصدق مع الله وشعبه.
ولكن لا حياة لمن تنادي، فالقوم قد أسلموا رقابهم للمستعمر
في غمرة انشغال النّاس بجائحة “كورونا”
البنك الدّولي ذراع المستعمرين يواصل التمدّد والهيمنة:
نشر البنك الدولي:
«أحدثت جائحة كورونا اضطرابات في جميع أنحاء العالم وأدت إلى تراجع شديد في نواتج التنمية التي تحققت على مدى عقود من الزمان. وفي الربيع الماضي نجحنا في تدعيم وقف سداد أقساط الديون لأشد بلدان العالم فقرًا وأطلقنا استجابة سريعة وواسعة النطاق للتصدي لهذه الجائحة. ونقوم حاليًا بتمويل العمليات الطارئة في أكثر من 111 بلد (تمثل موطنًا لما يبلغ ٪70 من سكان العالم) وكانت هذه الاستجابة هي الأكبر والأسرع للتصدي للأزمات في تاريخ مجموعة البنك الدولي».
وهذا يعني أنّ البنك الدّولي مستمرّ في استغلال الأزمات والهيمنة على الشّعوب، لصالح القوى المتحكّمة فيه.
ديون البنك الدولي لتونس طريق نحو استعباد التونسيين
“حكام” تونس الجدد مدينون للبنك الدّولي وهم مستمرّون في إغراق البلاد بالقروض بتزكية من البرلمان الذي يزعم نوّابه أنهم ممثلون للشعب. هاته السياسة لم يتورّط فيها أشخاص الحكّام ونوّاب البرلمان إنّما ورّطوا فيها أفراد التونسيين حتى صار نصيب كل فرد من الديون المستحقة للخارج اليوم بين 8 و10 ملايين من مليماتنا، أي إنّ المولود يولد اليوم وهو مدين للدّول المستعمرة بقرابة ال10 ملايين، وعلى كلّ أفراد الشعب أن يشقوا ويعملوا (هذا إن وجدوا عملا) ثمّ يقدّموا عرقهم لكبار المرابين العالميين، فإن لم يستطيعوا، فلكبار المرابين أن يتخيّروا من ثروات التونسيين مايسدّد لا فقط أصل الدّين بل وأرباحه المضاعفة، هكذا يسير بنا أشباه الحكّام بسياسات تبعيّة عمياء إلى عبوديّة مقنّعة مقنّنة تجعل من شعبنا مجموعة عبيد. وهكذا فتكت المؤسسات المانحة بكل مقومات الحياة في تونس بل وفي كلّ بلاد دخلتها. البنك الدّولي يتبجّح أنّه تدخّل لقرابة 70 في المائة من سكّان العالم، وهذا يعني استعباد 70 في المائة من سكّان العالم لحفنة مرابين لا همّ لهم إلا الربح.
ما كان للمستعمر أن يهيمن على تونس لولا حفنة من السماسرة
صرح سفير الاتحاد الأوروبي باتريس برغاميني بتونس ذات يوم أن “بعض العائلات الاقتصادية في تونس ليست لديها مصلحة في صعود مستثمرين اقتصاديين جدد”. هاته العائلات هي التي رضيت أن تقف في صفّ المستعمر، هاته العائلات هي الطّابور الخامس ارتبطت بالسلطة، وارتبطت بها السلطة في تحالف خبيث هدفه تذليل البلاد وتعبيدها لمستعمرها، في زمن المقبور بورقيبة والهالك بن علي كانت السلطة بما هي أداة تنفيذيّة هي البارزة بقوّة البوليس. وكانت تلك العائلات تقوم بدورها القذر من وراء ستار. أمّا بعد الثورة لمّا ضعفت السلطة وتهالكت وما عادت قادرة على قيادة النّاس أو كسب شيء من ثقتهم، انكشفت أولئك المتنفّذون وبدا للمتابع السطحيّ أنّهم أقوى من الدّولة، وبدأ الحديث عن رجال الأعمال الفاسدين وبدأنا نسمع بلوبيّات الضغط والابتزاز والتّهديد بخلق أزمات اجتماعيّة. والحقيقة أنّ هؤلاء هم الوجه الثاني للوسط السياسي العميل، إذ كان على السياسيين سنّ القوانين واستعمال القوّة لإخضاع الجماهير، أمّا حيتان المال فاشتغلوا سماسرة ووسطاء لإدخال الشركات الناهبة ولتوجيه الاقتصاد وجهة التبعيّة، ولمّا استمرّ ضعف الدّولة في تونس بدؤوا بالتغلغل في الأجهزة السّياديّة من خلال تمويلات الحملات الانتخابيّة وترشّحوا بشكل مباشر أو عيّنوا بعضا من أتباعهم ونظرة على مجلس النّوّاب تجد أعضاءه إمّا من رجال الأعمال أو من المرتبطين برجال الأعمال، والكلّ جاء عائلات في خدمة السيّد الأوروبي.
فالنظام السياسي في تونس وقعت هندسته ليتمكّن عملاء الغرب من الوصول إلى كراسي الحكم ولتتمكّن لوبيات المال من مواصلة القيام بنفس دور السمسرة لتمكين نفوذ الغربي وتستمرّ تونس دويلة هزيلة. هذا أفضى إلى نظام لصوصي يقطع كل نفس يتجرّأ على لمس فتات طاولة الأعيان. إذ وصل التردي إلى مستوى تآمر لوبيات الداخل والخارج على جيوب الناس وافتكاك ما بقي لهم قوّة أو قوت. فمن مخازي المشهد ومهازله أن تتنظم دوريًا بنزل البلاد ندوات روتينية لتباحث أزمات مزمنة كأزمة هجرة الكفاءات التقنية أو الهجرة السّريّة وتفشّي الجريمة، ويرعى هذه النّدوات، في شكل كاريكاتوري، هؤلاء البارونات حيث يحضرون لمشاهدة مسرحيّة يؤثّثها أحد أفراد عائلاتهم الذي يسعى لاكتساب “رأسمال اجتماعي” يعزّز به رأسماله الرّمزي عبر إلقاء محاضرات حول الوطن والوطنيّة وضرورة التشبّث بالوطن والبذل في سبيله وهو في أمسّ الحاجة إلى أبنائه الذين ربّاهم وكوّنهم. مسرحيّات ضجر منها الشّباب الذي صارت تلاحقه أخبارها حتّى في صفحات التّواصل الإجتماعي عبر خوارزميّات غبيّة ربطت بين كلمة الهجرة التي كتبها في محرّك البحث وظهورها في عنوان النّدوة فأصرّت إلّا أن تلاحقه في المجال الافتراضي لتكتمل خيوط المؤامرة من خلال تدخّل اللص الرأسمالي العالمي ليدعم “كمبرادوريه” الجدد لتستمرّ التّراجيديا التاريخيّة التي حاكتها أيادي المستعمرين بعد أن تمكنوا من النيل من دولة الحق والميزان وأزاحوا رجال الحكم المؤسس على عدل الرحمان وزرعوا وكلائهم في مفاصل بلادنا ودانت لهم ثمراتها كرها.
آثار خطيرة ومدمّرة إذا لم يتدارك تونس رجالها:
تونس اليوم مقبلة على افلاس اقتصادي يهدّد بانفجار اجتماعي لا أحد يمكنه توقع آثاره، أمّا البنوك الدولية المانحة فترى نفسها وصيّة على البلاد، وأشباه الحكّام لا يمانعون، جعلوها لقمة سائغة وفريسة سهلة لجرها مكبلة إلى تنازلات وأهداف إستراتيجية خطيرة جدا أهمها التطبيع مع كيان يهود وفتح مجالنا وأراضينا لقوى عسكرية أجنبية بتعلّات الحماية والمعاضدة وقد رأينا بوادر ذلك بالاتفاقية الخيانية التي وقعها وزير الدفاع التونسي ابراهيم البرتاجي مع وزير الحرب الأمريكي.
فهل سيظل أهل البلاد وأصحاب القوة فيها على الربوة متفرجين؟ أم ستكون لهم كلمة الحسم للقطع مع حال الهوان والارتهان؟ خصوصا وأن تونس تضم ثلة نيرة من الرجال المخلصين لربهم وأهلهم وجاهزون لحمل أمانة الحكم من الله الحكيم العليم وقد ضمهم حزب التحرير بين صفوفه جاهزين حاملين لنظام قويم سليم ذي ركائز متينة فصّل فيه وأصّل مشروع دستور ومواد للحكم المباشر وعمل لعقود على العناية بتفاصيله وتنقيته من الشوائب التشريعية بما يقود البلاد والأمة نحو الانعتاق التام من مظالم الرأسمالية وظلماتها.