تونس تغرق في وهم الحداثة

تونس تغرق في وهم الحداثة

من منّا لم يسمع عن مصطلح الحداثة؟ هذا المصطلح الذي تلوكه ألسنة الطبقة المثقفة الفرنكفونية العلمانية فتكثر من استعماله كشعار وحلم ومقياس وهدف فيخيّل لنا من سحر عرضه وكثرة تداوله والتشدق به أنه واقع معيش محسوس مشاهد. ولكنّ الله سبحانه وتعالى أبطل هذا السحر وكشف حقيقته؛ فهو مجرّد وهم توهمناه وتخيّل تخيّلناه. فقد كانت تونس طوال عقود كثيرة من الزمن حبيسة سحر السحرة الذين أوهمونا بالتقدّم والتطور والرقي والتحديث، وأفهمونا أنّنا نعيش في دولة الحداثة التي ارتقت بالبلاد والعباد ننعم بابتكاراتها واختراعاتها وانجازاتها واستثماراتها، ولكنّ الله عزّ وجلّ { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.

أنزل الله سبحانه وتعالى مطرا ليكشف الغطاء عن أعيننا المسحورة وعقولنا المخدوعة فنرى الأعيان والأشياء على حقيقتها دون تخيّل ووهم؛ فإذا بنا أمام الواقع المحسوس نرى بأم أعيننا عواصم البلاد السياسية والاقتصادية والسياحية التي يفترض بها أن تكون رمز الحداثة والتحديث تغرق بعد مطر ساعة. فأين الرعاية، وأين الاستراتيجية والتخطيط والإدارة، وأين الاستثمار في البنية التحتية، وأين السدود والشبكات المائية والصرف الصحي، وأين وأين وأين؟

أليست الحداثة – كما قال عبد المجيد الشرفي – “تنتج الإنجازات المادية كما تنتج القيم ومناهج التفكير والمؤسسات المجتمعية”، فأين إنجازاتها المادية في تونس بعد أكثر من نصف قرن؟ أليست الحداثة هي التقدّم والتطور والنماء الذي يبرز ويظهر ويتمثّل في البنية التحتية التي تعتبر مقياس التنمية فيحكم على نمو البلد أو تخلفه بقدر ما يوفّره من خدمات وتجهيزات وأنظمة وهياكل يتمّ توفيرها وتشييدها؟ فأين البنية التحتية في تونس، وماذا فعلت دولة الحداثة بالأموال والثروات؟ أم أنّ الحداثة عند ساستنا ومثقفينا ليست سوى جملة من القوالب الفكرية الأوروبية الجاهزة والمفاهيم الغربية المسقطة على واقعنا من أجل فصل الدين عن الدولة والحيلولة دون عودة حكم الشرع والعيش وفق النمط الغربي بتحلّله وتفسّخه وانحطاطه ومثليته وفلسفته المادية؟

“إن الحداثة ـ في أصلها ونشأتها ـ مذهب فكري غربي، ولد ونشأ في الغرب، ثم انتقل منه إلى بلاد المسلمين… ولا شك أن الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل أن يجدوا لحداثتهم جذوراً في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم إلا من كان على شاكلتهم من كل ملحد أو فاسق أو ماجن مثل: الحلاج، وابن عربي، وبشار، وأبي نواس، وابن الراوندي، والمعري، والقرامطة، وثورة الزنج، لكن الواقع أن كل ما يقوله الحداثيون هنا، ليس إلا تكراراً لما قاله حداثيو أوربا وأمريكا، ورغم صياحهم وجعجعتهم بالإبداع والتجاوز للسائد والنمطي ـ كما يسمونه ـ إلا أنه لا يطبق إلا على الإسلام وتراثه، أمّا وثنية اليونان وأساطير الرومان وأفكار ملاحدة الغرب، حتى قبل مئات السنين، فهي قمة الحداثة وبذلك فهم مجرد نقلة لفكر أعمدة الحداثة في الغرب مثل: أليوت، وباوند، وريلكة ولوركا، ونيرودا، وبارت، وماركيز، وغيرهم إلى آخر القائمة الخبيثة التي اضطرنا حداثيونا إلى قراءة سير أهلها الفاسدة، وإنتاجها الذي حوى حثالة ما وصل إليه فكر البشر. لقد نمت الحداثة كما قلنا في البيئة الغربية، وكانت إحدى مراحل تطور الفكر الغربي، ثم نقلت إلى بلاد العرب صورة طبق الأصل لما حصل في الغرب، ولم يبق منها عربي إلا الحروف العربية، أما الكلمات والتراكيب والنحو فقد فجرها الحداثيون كما يدعون وفرغوها من مضمونها” (عن الحداثة في ميزان الإسلام لعوض القرني).

وليست الحداثة المزعومة في بلادنا سوى حداثة التدمير؛ فهي تدمّر القيم الدينية وتهدم الأسس الحضارية الإسلامية، ولا تنتج إلا الشكّ والحيرة والاضطراب، وما الإنجازات الحداثية المزعومة إلّا مجرّد وهم أو {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This