تونس لا تحمل في باطن أرضها ولا على ظهرها من الثروات شيئا.. لكنها تملك ما هو أثمن وأغلى من كل ما تختزنه الأرض من مناجم وبترول وغاز وكل الثروات الطبيعية.. إنه الذكاء.. وبالذكاء ستحتل تونس أعلى المراتب, وتتمركز بين مصاف الدول المتقدمة.. هذا ما جادت به قريحة “بورقيبة”, وهذا ما عمل طيلة فترة حكمه على إقناعنا به.. ولقد نجح في مسعاه إلى حد كبير. ولم يرفع الغطاء عن هذه الخديعة إلا بعد ثورة 14 جانفي. ومع ذلك ما فتئ ورثة دولة الحداثة يجترون ما أتى به زعيمهم المقبور.. ويحتمون بزيفه كل ما طفى ملف الثروات على سطح الأحداث.
سوف لن نخوض هنا في مسألة هل تمتلك تونس ثروات أم لا, بل سنفترض أن “بورقيبة” ومن تبعه صادق في ما ادعاه وأن تونس لا تملك مناجم وحقول بترول.. وسنحاول الاقتناع بأن كل تلك الشركات الأجنبية حلت بين ظهرانينا للاستمتاع بدفيء شمسنا ليس إلا. وسيقتصر حديثنا على موضوع الذكاء الذي بشرنا “بورقيبة ” بأننا نملك منه ما يجعلنا في غنى عن كل كنوز الأرض ظاهرها وباطنها. والحديث عن الذكاء هنا لا يشمل أفراد الشعب إنما المراد به ذكاء من بيدهم رعاية شؤون الناس والقائمين على أمر البلاد.. وبعبارة أدق, المقصود هي الدولة التي يتجلى ذكاء الماسكين بدواليبها في الاستراتيجيات الموضوعة, والبرامج المرصودة للنهوض بالبلاد وجعلها في مأمن من شرور كل طامع غاصب.. ولها كامل السيادة. ولأهلها وافر الرفاه..
وبالعودة إلى بداية تركيز هذه الدولة كان لا بد من استحضار إطناب “بورقيبة” في خطاباته وتوجيهاته في الحديث عن ضرورة الاستثمار في الذكاء أو كما عبر عليه ب “المادة الشخمة” والاعتماد كليا على التنمية البشرية لتعويض فقر البلاد المدقع على مستوى الثروات. يتحدث صباحا مساء على دور التعليم وضرورته. ولا تقدم ولا ازدهار إلا بالتعليم.. كل ذلك مصحوب بسيل جارف من التبجح بكونه هو من أرسى أسس التعليم في تونس ولولاه لما خط أحدنا بيمينه حرفا. والنتيجة أن نسبة الأمية في تونس في حدود 19 بالمائة. وأن أول جامعة تونسية تأتي في المرتبة 70 افريقيا. هذا دون الحديث عن الترتيب العالمي.
نعم دول عانت الويلات من الحروب والمجاعات تقدمت أشواطا شاسعة عن تونس التي افتخر فيها بورقيبة بأن دولته ثلث ميزانيتها مرصود للتعليم, ليتضح لاحقا أن معظم المؤسسات التربوية تعود إلى فترة الاستعمار المباشر, ولم تكلف الدولة نفسها إلى يومنا هذا مجرد عناء صيانتها. مما جعل من قصدها لتحصيل المعرفة رحلة محفوفة بالمخاطر, حيث الأمراض والأوبئة نتيجة انعدام الماء الصالح للشراب. أو انهيار قاعات الدرس فوق رؤوس من فيها. ليكون هذا أحد أهم أسباب انقطاع العديد عن الدراسة بصفة مبكرة. وقد بلغ عدد المنقطعين عن التعليم سنة 2013 فقط مائة ألف منقطع. ومازال دروايش الدولة المدنيّة يراهنون على ذكائها.. هذا دون الحديث عن مناهج التعليم المتخلفة والتي عفا عنها الزمن. وترتيب أول جامعة تونسية على الصعيد الافريقي يكفينا مؤنة التوضيح والخوض في مسألة البحوث العلمية والخلق والابتكار, ومسايرة التقدم العلمي الذي شهده العالم. فالذكاء الذي راهنوا عليه لم يجعلنا نتخطى عتبة الاستهلاك ولا شيء غير الاستهلاك, إلى حد جعلوا من الاختراع والابداع جريمة يعاقب عليها ذكاؤهم, عفوا قانونهم, والتهمة هي الافراط في التفكير.
هذا ومن ضمن أولويات ما يسمى بدولة الاستقلال النهوض بقطاع الصحة. وبما أن لتلك الدولة ما يكفي من الذكاء لإرساء منظومة صحية متطورة, تشهد المؤسسات الاستشفائية اليوم حالة من الانهيار التام. فلا معدات, ولا بنية تحتية, ولا أدوية, فضلا عن عزوف الأطباء عن العمل في مستشفيات هي أشبه بالإسطبلات. ولقد أعلن رئيس المجلس الوطني لعمادة الأطباء “منير مقني” عن هجرة 1500 طبيب يعملون في المتشفيات العمومية. ولم يقتصر الأمر عن القطاع العمومي, فها هي نقابة القطاع الخاص تعلن عن هجرة 800 طبيب.. فالذكاء الذي قال عنه “بورقيبة” هو ثروتنا الحقيقية والوحيدة أجبر أطباء القطاع العام والخاص على الهجرة, لأن ذكاؤهم كالبرق الخلّب لا يعقبه نفع. بل هو ذكاء لا يجلب غير المصائب.
فالذكاء كما يرونه هو كيفية استرضاء المسؤول الكبير, والطرق التي تؤدي إلى ملء خزائن دولته بخيراتنا. والحيلولة دون قيام دولة مبدئية على أنقاض دولتهم الضرار. هذا هو الذكاء الذي عمل “بورقيبة” على ترسيخه ومن بعده “بن علي” وصولا إلى صاحب الهيبة “الباجي قائد السبسي” وحكومة الموظف السابق بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية بتونس ومن قبلها كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.