عانت تونس كثيرا من رعونة حكامها والبداية كانت مع حقبة لا أريكم إلا ما أرى.. التي أسسها “بورقيبة” وكرسها المخلوع ” بن علي” وصولا إلى حقبة الحكم الثلاثي أو الرباعي التي تعيشها تونس اليوم بعد أن فرضت عليهم الثورة تغيير شكل النظام الذي هيمن طيلة ستة عقود. غيروا الشكل حتى يتسنى لهم الاستمرار في حكم البلاد. وأوهموا البعض بأنهم استجابوا لمطالب من أطردوا “بن علي” وزمرته, فالتفرد بالحكم ولّى وانتهى. وأصبح للنظام ثلاثة رؤوس.. والحزب الواحد المهيمن على الحكم أصبح من الغابرين. برلمان ورئيس حكومة بيده معظم الصلاحيات, ورئيس دولة صلاحياته محدودة جدا. ويتقاسم كل هذا أكثر من حزب حتى لا يستأثر حزب واحد بالغنيمة –عفوا بالسلطة- وها إن تونس أصبحت بخير.. والدليل العالم بأسره يشيد بما حققه هؤلاء. ويثني صباحا مساء على الانتقال الذي لم يشهد له العصر الحديث مثيلا.
هذا ما يتباهون به وهذا ما يشيعه إعلامهم ويذكرنا به في كل آن وحين. ولكن أراجيفهم هذه بمرور الوقت لم تجد الصدى الذي يمنون أنفسهم بوجوده.. وألاعيبهم باتت مكشوفة وأسقطت من أيديهم بل اسقط من أيدي من وكلوهم لخدمتهم ولحماية نظام فشلوا في تلميع صورته وإخفاء قبحه. فالفقر احتد. والبؤس يشتد مع مطلع كل شمس ويقوى مع كل غروب. والحكام الجدد لا عمل لهم إلا التشدق بالانتقال الذي حققوه. وبالتداول السلمي على الحكم والحال أنهم لم يغيروا شيئا بل أمعنوا في تثبيت نفس النظام الذي أذاق الناس الويلات منذ تأسيس ما يسمى بدولة الاستقلال.
وبما أن وفاضهم خاوي.. وأرضهم جدباء, انتحلوا صفة رجال الدولة بزعامة كبيرهم الذي علمهم الدجل.. صاحب الهيبة ورئيس الدولة بالوكالة ” الباجي قائد السبسي “فكلما تأزم الوضع تصرف كما يتصرف ذلك الساحر مع الأطفال الذين تزاحموا لمشاهدة عروضه الخارقة, والتي من أشهرها ضرب القبعة بعصى أوهمهم بأنها سحرية فتندفع منها الأرانب تقفز في فرح و سرور. لينخرط الأطفال في موجة من السرور أشد من فرحة الأرانب. لتبقى فرحة الساحر أشد و أعظم. ففي فترة حكومة “الحبيب الصيد” لما لامست أوضاع البلاد والعباد قاع التردي أخرج الباجي عصاه العجيبة,وضرب القبعة فخرجت لنا وثيقة قرطاج التي كانت هي بدورها قبعة خرجت منها ما أسموه “حكومة الوحدة الوطنية” يترأسها موظف سابق بالسفارة الأمريكية “يوسف الشاهد” وأقسموا جهد أيمانهم بأننا لن نجوع مع هذه الحكومة ولن نضحا, وبالفعل كان الأمر كما أرادوا له. سحقنا الفقر سحقا. إلي درجة أصبح فيه الحصول على بيض يعد من الترف.
وفي حركة استباقية استعار رئيس الحكومة –رئيس وزراء- “يوسف الشاهد” العصا والقبعة من ملهمه” الباجي قائد السبسي” وتقمص دور الساحر واخرج لنا من قبعته أرنبا اسمه الحرب على الفساد. وكالعادة أغرق الإعلام البنفسجي البلاد في يمّ من الفرح لا وجود له إلا في أرجاء البلاتوهات المشبوهة.. أما في العالم الحقيقي وليس الافتراضي فالبلاد غارقة بالمعنى الفعلي لمفهوم الغرق. وأمام ازدياد الوضع قتامة جمع ” الباجي” قواه وتجشم عناء الضرب على القبعة من جديد, وأخرج لنا دون سابق إعلام اجتماعا دعا له باقي المهرجين عله ينجح في بثّ البهجة في نفوس الذين أضناهم الركض خلف لقمة العيش وان أصابوها فمغموسة بالذل والهوان كحال باقي أهالي البلاد الإسلامية الرازحين تحت كلاكل هذا النظام الوضعي البغيض.
لقد دعا “الباجي ما يسمى بالائتلاف الحاكم الجديد والمنظمات الاجتماعية إلى قصر قرطاج, والغاية انقاد البلاد… انقضاها من ماذا؟ من هيمنة ذراع القوى الاستعمارية صندوق النقد الدولي برفض أوامره وشروطه القاسمة لظهورنا؟ أم إنقاذها من التبعية للمسؤول الكبير الذي تنهب دولته خيراتنا بالليل والنهار, وأتت على الأخضر واليابس ولم تترك لنا حتى الفتات؟ إنقاذ البلاد من ماذا؟ من شجع ولؤم أرباب المال والنفوذ الذين لا يرقبون فينا إلاّ ولا ذمة؟ الجواب لا هذا وذاك.. هم اجتمعوا لينقذوا مصالحهم ومن ثمة إنقاذ أولياء نعمهم الذين يصدرون لهم الأوامر من خلف البحار. هم اجتمعوا ليتفاوضوا حول توزيع ما ستجود به عليهم يد المسؤول الكبير ليس إلا..أما حال البلاد والعباد فهذا أخر شيء يعنيهم. فموسم الانتخابات على الأبواب, ومغانم الحكم نضجت وحان قطافها. والبدء يكون بتوزيع الأدوار والمزايدات وتسليط الضغوط. ثم الجلوس إلي طاولت الحوار والتفاوض من أجل توزيع عادل للغنيمة في ما بينهم لهذا دعاهم ” الباجي” والباقي ستتكفل به الغربان الناعقة والترويج بأن ” الباجي” تحرك لإنقاذ البلاد وبأنه أصر على أن يجمع اتحاد الشغل و الحكومة لإيجاد الحلول.. ونحو ذلك من الأوهام التي ينثرونها يمنة ويسرة. فهم أعجز من أن يجدوا حلا لمشكلة تحدث في حظيرة.. فلا “الباجي” وحزبه الذي قال أن له من الكفاءات ما يسمح بإدارة شؤون أربع دول. ولا “الشاهد” وجوقته زائد اتحاد الشغل بمقدورهم إنقاذ البلاد فهم نتاج نظام فاسد فرض علينا فرضا.. ولا يمكن البتة أن يأتي منهم خير.
لهذا لم يجدوا غير العبث وإرهاب أبصار الناس بخزعبلاتهم. لكن فاتهم كما فات مسئولهم الكبير أن خدعة إخراج الأرانب من القبعة عفا عليها الزمن ولم يعد هناك من ينخدع بتدفق الأرانب ويصفق بحرارة نتيجة انبهاره بما رآه كما كان يحدث زمن حكم “بورقيبة” وبن علي.. أما أصحاب الأمر والنهي الذين يحركون من وكلوهم ليحكمونا كالدمى فهم اليوم كمن أرسلوا واردهم ولم يجلب لهم ولو قطرة ماء, لأن ماءهم أصبح غورا ولن يستطيعوا له طلبا.