تونس والاستعمار الجديد: أوامر وإملاءات وتراكم للأزمات
عُرّف الاستعمار الجديد (بالإنجليزية: Neocolonialism) بأنه استغلال الرأسمالية والعولمة والاستعمار الثقافي للتأثير على بلد نامٍ بدلًا من الأساليب الاستعمارية السابقة للسيطرة العسكرية المباشرة (الإمبريالية) أو السيطرة السياسية غير المباشرة (الهيمنة).
صُكَّ هذا المصطلح من قِبل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في عام 1956، واستُخدم لأول مرة من قبل كوامينكروما (أول رئيس لغانا) لوصف حالة البلدان الأفريقية المارّة بعملية إنهاء الاستعمار في ستينيات القرن الماضي. نوقشت فكرة الاستعمار الجديد في أعمال المفكرين الغربيين مثل جان بول سارتر (الاستعمار والاستعمار الجديد)، ونعوم تشومسكي (اتصال واشنطن والفاشية في العالم الثالث).
أما نظرية التبعية، فهي التوصيف النظري للاستعمار الاقتصادي الجديد، وهي تقترح أن يتألف النظام الاقتصادي العالمي من البلدان الغنية في المركز، والبلدان الفقيرة في الهامش.
وبغض النظر عن اختلافات المصطلحات في التعاطي مع مفهوم الاستعمار الجديد، ومن اختلاف أوجه وأدوات هذا الاستعمار الذي قرر الانتقال من الغزو العسكري المباشر إلى الغزو الفكري والثقافي والاقتصادي، وبالتالي إخضاع الدول الضعيفة دون تحريك الجيوش وخوض الحروب المباشرة، فإن كل هذه المصطلحات وهذه الأوجه تعبر عن حقيقة واحدة وعن عقيدة واحدة، هي العقيدة الرأسمالية المتحكمة في النظام العالمي إلى اليوم، والتي تحرك أصحابها ليتحكموا في مصائر الشعوب وإخضاع الدول والحكومات للتوجهات والخيارات التي يرسمها أرباب الرأسمالية العالمية. والأهم، أن تغيير الرأسمالية لأساليب الاستعمار ليس تهمة يُتّهم بها أصحاب هذا المبدأ، بل هي أفكار ونظريات لها تأصيل وتفصيل عندهم، بل لها مذاهب ومدارس، ما يؤكد رسوخ فكرة الاستعمار في الذهنية الغربية.
فالرأسمالية عقيدة يدين بها أصحابها لرأس المال الذي يكاد يتأله بوضعه قوانين وتشريعات تسير حياة بقية الناس، والاستعمار بأشكاله وألوانه (حتى الدموية منها) هي طقوس تعبدية عند من يعتنقون عقيدة فصل الدين عن الحياة، يصدق بذلك في حقهم التعبير القرآني البليغ: أرباب متفرقون.
ومع ذلك، فقد أكدت الوقائع أن حماة الرأسمالية لا يستغنون عن فكرة “الاستعمار القديم” إذا تطلبت المواجهة الحضارية ذلك وأحسوا بتهديد مباشر يحول دون نشر مبدئهم وفرض هيمنتهم، وأنهم لا يقيمون وزنا للأرواح البشرية والقيم الإنسانية، إلا من باب التضليل السياسي والتعمية عن الجرائم الوحشية للرأسمالية في حق البشرية، وما حصل في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا والسودان واليمن، خير دليل ومثال. بل ما يحصل في أوكرانيا، يؤكد أن النهم الرأسمالي ليس له حد، وأن الشعوب الغربية نفسها قد تدفع ضريبة جنون زعماء الرأسمالية.
اليوم، يُراد لتونس بعد تخديرها، أن تخضع لجراحة تجميل تعيد لها بريق الرأسمالية الزائف، وتُبعد عنها شبح الدولة الإسلامية التي تحقق السيادة الحقيقية وتهدد فعليا نفوذ الغرب الرأسمالي. هذا الصعيد العقائدي جمع قادة العالم ضد عدو محتمل هو الإسلام عندما تكون له دولة.وهو الذي جعل القوى الاستعمارية تتكالب وتتنافس على اختطاف بلد أطلق شرارة الثورات في المنطقة، وكان له السبق في التمرد على منتجات الرأسمالية في وقت ظن فيه الغرب أن شعبه قد خضع بالكامل للخيارات الليبرالية ولمبدأ التبعية، لأن “المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده” على رأي العلامة ابن خلدون.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقد على انتفاضة أهل تونس في وجه الاستعمار ووكلائه، نرى أن الغرب مصرّ على إعادة هذا البلد إلى حضيرة الرأسمالية، وعلى إحكام قبضته على هذا البلد حتى لا يخرج عن مربع التبعية وعن دائرة الخضوع والارتهان الكلي.
فبينما يواصل صندوق النقد الدولي سياسة المد والجزر مع تونس، محاولا فرض شروطه وفي مقدمتها رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات وخوصصة المؤسسات العمومية، نرى أن الاتحاد الأوروبي عازم على استغلال الأزمة الاقتصادية والوضع الخانق للبلاد ليفرض هو الآخر شروط إعادة اللاجئين غير النظاميين إلى بلد العبور، من أجل مساعدة تونس بقروض ربوية جديدة وإمكانية التدخل لصالحها في مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، تحت عنوان منع تونس من الانهيار.
أما السلطة التونسية التي وقعت بين فكي كماشة، فهي ماضية في غيّها، لا تقر بأنها أزمة نظام رأسمالي تسبب في انهيار ما يعرف بدولة الحداثة، ولا تبحث عن الإسلام كمخلص لها من الأزمات، إنما تسير على نفس نهج الخضوع والارتهان الذي تغطيه خطابات “السيادة” الوهمية، في الوقت الذي تستقبل فيه الوفود الغربية من كل حدب وصوب، بل تُفتح كل الأبواب وتُنصب موائد الاجتماع وتقعد المفاوضات والاتفاقات مع كل من تدعي السلطة رفض الانصياع إلى أوامرهم وإملاءاتهم، حتى اختلطت الأوامر والإملاءات في وقت تكالبت فيه كل الجهات الرأسمالية لنهش جسد الأمة الإسلامية ومنها تونس.
إن التأكيد على سير تونس في الاتجاه الصحيح، وعلى ضرورة الحفاظ على الخيار الرأسمالي الليبرالي، وإقرار رزمة “الإصلاحات” التي يمليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أو برامج المساعدة الأوروبية، هي شعارات طالما رفعها أرباب الرأسمالية في وجه تونس منذ عقود، ومع أنها سبب تراكم الأزمات وغرق البلاد اقتصاديا، فهي نفس الشعارات التي يكررها مسؤولو هذه المؤسسات المالية الدولية، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. بل إن الفساد متأت أساسا من الإعراض عن شرع الله والإقبال على الخيارات الرأسمالية الفاجرة، والتي سامت الشعوب سوء العذاب. قال الله تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ”.
إن غرق سفينة تونس اليوم، سببه الرئيسي خضوع قادة هذه السفينة من أشباه الحكام إلى نصائح وتوجيهات من أقنعهم بأن الغرق النهائي هو سير في الاتجاه الصحيح، بل سببه فقدان البوصلة واعتبار أن قادة الإجرام الرأسمالي ورموز الاستعمار الجديد أهلا للنصح والتوجيه والإرشاد. وإنه لا سبيل للخلاص إلا بتبني الإسلام كاملا فكرة وطريقة، عقيدة ونظاما، فهو أساس للتغيير الجذري والحكم الرشيد، وهو السبيل لنهضة فكرية واقتصادية وحضارية حقيقية، فالبدار البدار قبل الفوات، فإن الخلافة سبيل النجاة.
CATEGORIES كلمة العدد