تونس و”دولة البوليس” إلى متى سيبقى الأمنيّون حماة لنظام فاسد؟
أثارت حادثة احتجاج مجموعة من قوات الأمن التونسي الحاملة للسلاح أمام إحدى المحاكم التونسية، وتطويق مقرها بالسيارات الأمنية للمطالبة بالإفراج عن ثلاثة من زملائهم المتهمين في قضية “شبهة تعذيب” الاثنين 26 فيفري الماضي، جدلا واسعا بين المنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية، التي حذرت من تغول النقابات الأمنية على الدولة ومؤسساتها.
ففي مشهد مثير اصطلح عليه ب”غزوة المحكمة” حاصرت النقابات البوليسية (الحاملة للسلاح) محكمة “بن عروس” مطالبة بالإفراج عن زملاء لهم تورطوا في التعذيب واعتدوا على المحامي المكلف بالدفاع عن المتضرر.
أثار هذا المشهد موجات كبيرة من الاستنكار ومن التعبير عن الصدمة بسبب التهديد التي صارت تمثّله القوات المسلحة من غير العسكريين للمؤسسة القضائية وللخطر كبير الذي صار ماثلا على المجتمع وعلى مؤسسات الدولة.
فيما وصفت نقابات سلك القضاء والمحامين الحادثة بـ”الخطيرة وغير المسبوقة”، في محاولة للضغط على سير القضاء التونسي باستعمال قوة السلاح، وتكريسا لمبدأ الإفلات من العقاب والتمرد على القانون، داعية كلا من رئيس الدولة ورئيس الحكومة لتحمل مسؤوليتهما كاملة في فرض القانون وهيبة الدولة.
وكانت نقابة موظّفي الإدارة العامة للأمن العمومي دعت الأحد 25/02، في بيان وصف” بالتمرد الأمني غير المسبوق” جميع منظوريها إلى “الاستنفار والحضور” صباح الاثنين أمام المحكمة الابتدائية ببن عروس، وذلك على خلفية إيقاف ثلاثة من زملائهم الأمنيين من أجل شبهة التعذيب.
إنّ ما بدر من سلوك الأمنيين- حسب الناشطين – من استباحة ساحات المحاكم مع غياب أي رد فعل رسمي حكومي تجاه هذه الحادثة من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه للتهجّم على القضاة والمقرّات القضائية؛ بهدف الضغط عليها، ولا يمكن وصفه بالاحتجاج السلمي إذ هو أقرب للضغط المباشرة على القضاة حتى لا نقول التهديد.
غياب الدولة وانهيار هيبة مؤسساتها
في الحقيقة ليست هذه الأعمال إلا نتيجة طبيعية لغياب الدولة وانهيار أجهزتها لأن سطوة السلاح المتمرد هي في الحقيقة سلطة الغابة وسلطة الإرهاب وسلطة فرق الموت.
إنّ تاريخ الدولة البوليسيّة في تونس تاريخ أسود حالك أسس الاستعمار نواتها الأولى من أعداء المقاومين ومن حلفاء الوكيل الاستعماري الأول “بورقيبة ” فتكفلت وقتها الآلة البوليسية بالقضاء على خصوم “المجاهد الأكبر” من المقاومين و”الفلاقة” المجاهدين الصادقين .
وبلغت سطوة القبضة البوليسية أواخر أيام بورقيبة أوجها عندما تحولت تونس إلى معتقل كبير يخنق كل المعارضين وخاصة الإسلاميين الذين بدأ في التنكيل بهم منذ أواخر السبعينات عبر ذراع “البوليس السياسي”، فالدّولة البوليسيّة أنشأتها فرنسا الاستعماريّة وطوّرها بورقيبة ثمّ رسّخ أركانها بن علي.
إذ تحولت الدولة في عهد بن علي إلى بوليس حاكم. وعملت الدولة التسلطية البوليسية على احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع، وتحوّل كلّ ما في الدّولة من منظّمات وجمعيّات وأحزاب معترف بها مجرّد امتداد لسلطة الدولة البوليسية وديكورا لها.
والدّولة البوليسيّة هي الأداة القويّة بيد المستعمر الذي كان مضطرّا أن يغيّر أسلوبه في الاستعمار فهي التي تضمن له خضوع الشعب تحت مسمّى الاستقرار وتضمن له تمرير مشاريعه وخططه تحت حراسة البوليس الذي يخمد بعصاه الغليظة كلّ صوت حقّ بالقمع والتسلّط والإرهاب، وخلال آخر أيام بن علي الرئيس الهارب عرفت الدولة البوليسية أزهى أيامها فأصبح الأمن مرادفا للرعب الاجتماعي وكان الداخل إلى مراكز الإيقاف أشبه بمن يطلّ على الجحيم.
تغيّر الوضع بعد الثورة
ولكن، بعد الثورة ضد دولة البوليس المدعومة من الغرب المستعمر، تبخرت الدولة الأمنية وتراجع السلوك العدواني للبوليس بفعل الزخم الثوري الكبير وخوفا من الانتقام الشعبي بسبب بشاعة الجرائم المرتكبة طوال أكثر من نصف قرن من الزمان.
كان الاتجاه العام، السائد والغالب لدى الناس، بعد سقوط “دولة الحداثة” التي توسّلت بالقوة الأمنية وبالبطش والتنكيل، كان الخيار واضحا جليّا لا تخطئه عين المراقب، أنّ توجّه النّاس نحو الإسلام ليس على وجه الالتزام والسلوك فقط بل على أساس أن تحكم به في الدولة وأن يكون الأساس في العلاقات داخليّا و خارجيّا ، وهذا ما أثار القوى الاستعمارية المتحكّمة من رفض للمنوال المجتمعي التي تقدّمه بل تفرضه و تحرسه، فقامت عن طريق أدعيائها بأعمال لتصرف الناس عن خيارهم الذي تبنوه طوعا لا كرها، الإسلام في مقابل الديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية، فضخّت أموالا وأنشأت أحزابا ومنظمات وجمعيات، وكتبت بأيديها دستور التأسيسي فانتعشت بذلك الدولة العميقة، وتكاثرت الأزمات، وبدأ شبح اليأس يطلّ برأسه ممّا شجّع الدولة الأمنية على العودة من جديد مستفيدة من الفوضى التي سبّبها النّظام، واستفادت من إنشاء هياكل خاصة بها وهي ما عرف في تونس باسم “النقابات الأمنية المسلحة” بما هي هياكل نقابية لحملة السلاح تدافع عن مصالح الأمنيين.
تمّ الترخيص لهاته النقابات في خوض العمل السياسي وانخراطها في سياسة التحالفات المعلنة والخفية وتحولت من قوة حاملة للسلاح إلى طرف سياسي بل إن النقابات الأمنية سعت في كثير من الأحيان إلى تحقيق مطالب جديدة عبر محاولة تمرير “قانون زجر الاعتداء على الأمنيين” الذي يمنح القوات المسلحة حصانة كبيرة من كل مساءلة أو محاسبة بل يجعل منها هيكلا فوق العادة متمتعا بصلاحيات لا تحصى.
اليوم ومع عودة الممارسات البوليسية القديمة من تعذيب وتعسف واعتقال وتطاول على المؤسسات وإهانة لكرامة النّاس، كيف يمكن أن نفهم حصار قوات مسلحة “السلطة القضائية” في محكمة؟
أليس في ذلك عودة إلى المربّع الأول؟ لمصلحة من إحياء الدولة البوليسية القمعية؟
-
الغرب الكافر المستعمر يسعى لفرض نظامه للمحافظة على مصالحه، وهو هنا يسعى إلى السيطرة على بلادنا
-
وما يعطّله ويفسد عليه برامجه، أنّ النّاس في تونس عرفوا عدوّهم المستعمر بكل أشكاله وألوانه وعرفوا أنّ “الحكّام” المتعاقبين ليسوا إلا أقنعة للدّول الاستعماريّة.
-
فمن يدعم النّظام القائم ويحميه؟ من يحمي العملاء في حركتهم لتأمين مصالح المستعمر؟ لأجل هذا وضعت الأجهزة الأمنيّة منذ زمن الاستعمار أي لحماية من يخون البلاد ويبيعها، والمصيبة أنّ العاملين فيها مظلّلين باسم تحصيل حقوقهم والدّفاع عن زملائهم، وتحسين مستوى عيشهم. فيُدفعون دفعا لردّات فعل عنيفة وعدائيّة لاكتساب “مشروعيّة” وحصانة.