تونس وصندوق النقد الدولي: إلى اين؟
“شروط صندوق النقد الدولي لقاء منح قروض تزيد من نسبة البطالة في الغالب، كما أنها تضر بأسواق العمل، وتتسبب في تقلص الإمكانيات الصحية، من خلال الإصرار على عدم توجيه الدعم, وهذه القروض للميزانيات الأساسية للدول، كما أنها تفرض وتصر على مشروعات أغلبها مفيدة للصندوق ويضمن بها حقه لكنها غير بلا فائدة تذكر للدولة, وتهدر طاقاتها وجزء هاما من إمكاناتها…” هذا الكلام للخبير الاقتصادي والموظف السابق لدى صندوق النقد الدولي يختزل فيه حقيقة ذلك الوحش الذي تحركه أيادي القوى الاستعمارية المتخفية بدورها داخل أروقة الأمم المتحدة, كي تجد في أصحاب العقول السقيمة وحاملي العاهات الفكرية خط دفاع أول على جرائمها بحجة أن الأمم المتحدة هي الحضن الدافئ لشعوب البلدان الفقيرة أو بالأحرى هي ضحية تلك المنضمات والمؤسسات الأممية يتزعمها سيئ الذكر صندوق النقد الدولي الذي لا يحل ببلد إلا ونشر فيها الخراب وهذا ما بدأت بوادره تخيم على تونس, حيث شرعت حكومة الموظف السابق لدى السفارة الأمريكية في تنفيذ ما أمرت به “كريستين لاغارد” مديرة صندوق النقد الدولي من خلال طبختهم المسمومة المسماة بمشروع قانون المالية لسنة 2018 ..وما هذه الميزانية إلا ذلك الألم الذي بشرنا به “يوسف الشاهد” فور تعيينه على رأس ما سمَّوها “حكومة الوحدة الوطنية”.. فلقد دعا الجميع في كلمة ألقاها أمام أعضاء مجلس نواب الشعب إلى “الوقوف لتونس” وتحمل ما ستقوم به حكومته من إصلاحات مؤلمة ومرة.. والإصلاحات التي يزعم الشاهد أنها نتيجة عبقرية أعضاء جوقته وبإلهام منه..هي في الواقع امتلاءات صندوق النقد الدولي يفرضها على كل بلد ساقه حكامه إلى تلك المحرقة وهم يحسبون أنهم فتحوا لهم أبواب نعيم مقيم, كما هو حال حكام تونس من “بورقيبة” مرورا ب”بن علي ” وصولا إلى كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة. وحتى تكون صورة الجحيم الذي ينتظرنا أوضح و أقرب للأذهان كان لابد من ضرب أمثلة على الكوارث التي حلت ببلدان اجتاحها “تسونامي” النهب الدولي وأبرز الأمثلة يبقى ما حلّ بالصومال, هذا البلد الذي تحول إلى رمز للمآسي بجميع صنوفها وعناوينها, والسبب المباشر في ما آلت إليه أوضاع هذا البلد هو تدخل صندوق النقد الدولي بإصلاحاته.. وتوجيهاته, وبرامجه, تماما كما هو حاصل اليوم في تونس, إصلاحات وإجراءات ووو..وفي حقيقة الأمر هي شروط واملاءات يصدرها الصندوق, تترا لتنفذها الحكومة بحذافيرها, مع حق التصرف فقط في كيفية تسويقها والترويج لها.. وإيهام الناس بأن تلك الكوارث هي تصرف حكيم وحسن تدبير, جادت بها قرائح كفاءات تزخر بها الحكومة.. اشتراطات طالت جميع القطاعات في الصومال, ولم تغادر كبيرة ولا صغيرة إلا وحولتها إلى أثر بعد عين. وهذا ما تطرق إليه البروفيسور “شودوفسكي” في كتابه “عولمة الفقر” وجاء فيه “تميزت الإصلاحات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي في الصومال بتفكيك البرامج الصحية والتعليمية، وبحلول عام 1989 كان الإنفاق على الصحة قد انخفض بنسبة 78بالمائة على ما كان عليه سنة 1975, وتدنى مستوى النفقات المتكررة على التعليم عام 1989 إلى حوالي 4 دولارات لكل طالب في المدارس الابتدائية بعد أن كان في حدود 82 دولار.. وفي الفترة من 1981 إلى1989 انخفض الالتحاق بالمدارس بنسبة 41 بالمائة, على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد السكان في سن المدرسة، كما اختفت الكتب المدرسية والمواد المدرسية من صفوف المدارس، وتدهورت المباني المدرسية، وأغلق ما يقارب ربع المدارس الابتدائية، وانخفضت رواتب المعلمين إلى مستويات متدنية إلى حد بعيد…” وهذا ما هو جاري عليه العمل اليوم في تونس وهذه هي الإجراءات الأليمة التي بشرنا بها “يوسف الشاهد” في خطابه الذي وصفوه بالتاريخي والشجاع تحت قبة البرلمان. فالدولة ستحد من نفقاتها, وقد بدأ ذلك يظهر للعيان من خلال تدهور الخدمات الطبية.. والنقص الفادح في الأدوية, إلى جانب الوضع المزري الذي تشهده المؤسسات التربوية التي تشكو عديد النقائص, سواء على مستوى البنية التحتية أو على مستوى قلة عدد المدرسين.. ففي مستهل السنة الدراسية ل 2017-2018 ظل حوالي نصف مليون تلميذ بالمدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية بلا مدرسين طيلة ما يربو عن شهر بسبب عدم صلاحية المدارس أو بسبب حجم النقص الحاصل في إطارات التدريس.علما وأن الدولة في ظل سياسة تقليص النفقات التي أمر بها صندوق النقد الدولي رفضت تسوية وضعية آلاف المدرسين النواب الموزعين على مختلف المدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية-5800 معلم نائب و 7280 أستاذ نائب- هذا ويشير”شودومسكي” في كتابه “عولمة الفقر” إلى مسألة بالغة الأهمية, وهي كون الصومال قبل تدخل صندوق النقد الدولي يتمتع بالاكتفاء الذاتي عكس ما يروج له, إذ يقول ” ظلت الصومال تتمتع بالاكتفاء الذاتي من الغذاء حتى أواخر السبعينات على الرغم من مراحل الجفاف المتكررة، ومن بداية الثمانينات جرت زعزعة الاقتصاد الوطني ودمرت الزراعة الغذائية.عملية التفكك الاقتصادي, سبقت اندلاع الحرب الأهلية في عام 1991. والفوضى الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن “الطب الاقتصادي” لصندوق النقد الدولي قد مهدت الطريق لإطلاق حرب أهلية ترعاها الولايات المتحدة, بلد بأكمله مع تاريخ غني من التجارة والتنمية الاقتصادي تحول إلى مقاطعة…”.
وإلى جانب هذه الكوارث لم يتوان صندوق النقد الدولي في فرض تخفيض قيمة العملة الصومالية “الشلن” بداية من سنة 1981 تبعته تخفيضات دورية مما أدى إلى ارتفاع في أسعار الوقود والأسمدة وجميع المواد الأساسية تماما كما يحصل الآن مع الدينار التونسي الذي يشهد انهيارا مطّردا وممنهجا مما أدى إلى الارتفاع القاسم للظهر في كل المواد الأساسية، وذلك كله من أجل أن عيون صندوق النهب, هذا دون الحديث عن تسريح الموظفين لغاية التقليص من كتلة الأجور, مع تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية وفسح المجال للقطاع الخاص ليجتاح جميع المجالات الحيوية بعد تخلي الدولة عنها. إذن كل هذه القتامة التي تغرق فيها البلاد يوما بعد يوم مأتاها التعامل مع صندوق النقد الدولي والوقوع بين براثنه دون أدنى شك, وما حل بالصومال يكفينا مئونة توصيف فداحة التعامل مع هذا الوحش مدمر الشعوب والبلدان, فحتى الماء يتم بيعه للفلاحين الفقراء على أساس استرداد التكلفة, وبسبب نقص الأموال صارت الدولة ملزمة بالانسحاب بسبب عدم وجود الصيانة, وتم خصخصتها من قبل التجار المحليين والفلاحين الأغنياء في المناطق شبه القاحلة مما أدى إلى انهيار الأمن الغذائي, وسمح للمجاعة أن تفتك بالصوماليين.. وهذا ما نخشى وقوعه في تونس, فوزير الفلاحة والموارد المائية “سمير بالطيب أصبح خبزه اليومي تذكيرنا بفقر تونس المائي مع تلويحه المستمر برفع تسعيرة ماء الري, ولم يجد من الحلول غير منع الزراعة السقوية في عدة مناطق, وهذا مؤشر قوي على أن تونس يهددها مصير الصومال دون تهويل منّا, فقر ومجاعة ونقص في مواد أساسية.. بسبب التكييف الهيكلي لاقتصاد البلاد مع تجراءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي له علاقة مباشرة بعملية تكوين المجاعات, لأنه ينسف منهجيا كل أنواع نشاط اقتصادي لا يخدم مصالح نظام السوق العالمي, ومع هذا ما زلنا نسمع صاحب الهيبة “باجي قائد السبسي” ورئيس وزرائه صاحب المكنسة, يتبجحان بقدرتهما على إقناع مؤسسة السلب والنهب الدولي بمنح تونس مزيدا من القروض.
فليت شعري ينخرط جميع أهل تونس في هبة كنس لهذا النظام بكل مكوناته ومؤسسات.. وقوانين وكل الرويبضات القائمين عليه قبل أن تحلّ بنا الكارثة لا قدّر الله.
حسن نوير