تونس وفنّ استيراد الأزمات: الحرب بين روسيا وأوكرانيا والأزمة في تونس
تونس مطمور روما، تونس الخضراء… كبرنا ونحن نسمع هذه الأوصاف عن تونس،سمعنا كثيرا عن القمح من باجة… ولكنّ الواقع أنّ قمحنا ما عاد يأتي من باجة بل من روسيا وأوكرانيا. تونس من أكثر البلدان استيرادا للحبوب، تستوردما يقرب من 22 مليون قنطار سنويا، ولا تنتج تونس إلّا 10 مليون قنطار (حسب معدل إنتاج المواسم الأخيرة)، كما تستورد تونس اليوم قرابة من حاجياتها من الحبوب 70% ومن القمح اللّيّن 90%، من أوكرانيا وروسيا وبدرجة أقل من فرنسا ودول أوروبية أخرى. هذا مع ارتفاع جنوني في أسعار الشحنتجاوزت نسبة 500٪ نتيجة ارتفاع الطلب العالمي على السلع، مقابل نقص في البواخر والحاويات، وارتفاع أسعار الطاقة والتأمين على البواخر، ما أدى إلى وضعية تضخمية كبيرة جداً، مع توقعات بانعكاسات خانقة للاقتصاد التونسي الذي يعاني منذ سنوات. والمشكل أنّ روسيا وأوكرانيا يتحاربان، بما يعني أنّ استيراد القمح قد يتعطّل، أو ترتفع أسعاره بشكل جنونيّ.ووفق بيانات رسمية صادرة عن المرصد الفلاحيسجلت واردات الحبوب في تونس خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الفارط (تجاوزت 500 مليون دينار)، وكشف المرصد أن واردات الحبوب مثلت 48.9 بالمائة من الواردات الغذائية لتونس، وتم تخصيص 1255.3 مليون دينار لشراء القمح أي (60.7 بالمائة من واردات البلاد متجهة للحبوب). ومع ارتفاع الأسعار العالمية، أصبح سعر قنطار من القمح المستورد يكلف الدّولة أكثر من 110د في اتجاه تونس، في حين يكلف استيراده خزينة الدولة أكثر من 1600 مليون دينار سنويا تسددها تونس بالعملة الصعبة. وإذا أضفنا العقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة والأوروبيّة التي ستسلّطها أمريكا في محيط منطقة البحر الأسود، ما قد يعلّق عمليّة الاستيراد أو يرفع من أسعارها إلى مستويات تستنزف الميزانية استنزافا.
والخلاصة: أنّ غذاءنا في تونس مرتهن بالخارج
السّؤال الذي طُرِح في وسائل الإعلام، إذا كانت أغلب وارداتنا من القمح من روسيا وأوكرانيا، فمن أين سنأتي بالقمح من أين سنأتي بطعامنا؟
يُجيب وزير التّجارة بلغة المطمئنّ الواثق، “تونس أتمّت عمليّات الاستيراد، ولدينا مخزون يكفينا إلى غاية شهر جوان القادم”. ثمّ ماذا بعد شهر جوان؟
لا شيء في الأفق، وفاقد الشّيء لا يُعطيه، الوسط السّياسي برمّته (رئيسا ومعارضة …) لا يمتلك الحلول ولا يُفكّر فيها، وأنّى لهم التّفكير؟ بل لماذا يُفكّرون؟ وصندوق النّقد الدّولي هو الذي يُفكّرُ لهم. طعامنا مرتهن توفّره بالخارج، والرّئيس يستقبل ممثّل البنك الدّولي، ويلقي الخطب الجوفاء الفارغة عن “سيادة” وطنيّة، وحكومة الرّئيس السائرة بتعاليمه “الثّوريّة” منغمسة انغماسا في محادثات مع صندوق النّقد الدّولي، تستجدي وتتسوّل،أمّا الوسط السياسيّ فينتظر ما تستُسفر عنه هاته المحادثات.
وكلّهم يتحدّث عن كيفيّة تطبيق وصفة الصّندوق (رفع الدّعم، تخفيض كتلة الأجور وبيع بعض المؤسسات العموميّة..)
فالرئيس بحكومته، يظهرون أنّ تونس مرضيّ عنها دوليّا ولذلك “تُبشّر” وزيرة الماليّة أنّ الاتّفاق على القرض سيكون في شهر أفريل القادم، أمّا المعارضون فيزعمون أنّ تونس في عزلة وأنّ الصّندوق لن يموّل تونس إلا إذا وجد حوار وطنيّ حقيقيّ بين كافّة المكوّنات،
أشباه الحكّام وأشباه سياسيين، لا يُحسنون إلا توليد الأزمات، فإن لم تكفهم استوردوا لتونس أزمات جديدة
-
تونس بوضعها الحالي مجرّد كيان هزيل تابع لأوروبا ونتيجة التّبعيّة الحتميّة أن تتأثّر تونس بالأزمات الخارجيّة قبل البلدان التي وقعت فيها الأزمة. فلا غرابة أن تكون أخطر أزماتنا مستوردة، وصارت البلاد بين أزمات داخليّة وأخرى خارجيّة مستوردة لا تستطيع دفعها.
-
الأزمة في تونس وصلت إلى طعامنا، فبعد أن استوردنا الفكر الغربي، الذي أنتج أزمات سياسيّة (منذ بورقيبة وبن علي وصولا إلى قيس سعيّد) ثمّ استوردنا مناهج التّعليم الغربي فأنتج أزمة تعليميّة (بل مجتمعيّة) مدارس صارت مجرّد محاضن تُنبت “مشاتل” يتخيّر الغرب أحسنها ليأخُذه، فالجميع يشهد النّزيف الحادّ في هجرة العقول أو تهجيرها من تونس نحو أوروبا وأمريكا.استوردنا النظريّات الاقتصاديّة فكان الارتهان لكبار المرابين العالميين، ثمّ استوردنا الوباء، ثمّ ها نحن نستورد الجوع، فتونس منذ أن تحكّم فيها أشباه الحكّام الذين وضعتهم بريطانيا على رأس الدّولة وهم يستنزفون كلّ طاقاتها، ويسيرون بها نحو الانهيار، فمن أعدم مشاتلنا وبذورنا؟ ومن جعلنا في تبعيّة غذائيّة؟ كلّ ما نأكله تقريبا مستورد، فنحن نستورد البذور والمشاتل والأدوية ونستورد القمح، ولكنّ المسؤولين والسياسيين لا يرون إلا مزيدا من التبعيّة والارتهان مزيدا من الاستيراد مزيدا من القروض للاستيراد، وأمثلُهم طريقة من يدعو إلى البحث عن مصادر تموينيّة أخرى غير روسيا وأوكرانيا، وأين هي هاته المصادر إلا في قبضة أوروبا أو أمريكا؟ أمّا التّفكير بعيدا عن الغرب وسياساته والتبعيّة له فبعيد عن أذهانهم. فهم صمّ عن نداءات الفلّاحين، عمي عن سياسات رشيدة تُخرجنا من التّبعيّة. تونس مرتهنة غذائيّا، والسّياسيّون يتحدّثون عن البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي، و”يبشّرون” بأنّ البنك العالمي سيدعم تونس بدليل أنّه أقرض تونس 400 مليون دولار، وأنّ مبعوثه “فريد بالحاج” أكّد لهم أنّ تونس ليست في عزلة، أمّا المحادثات مع بعثة صندوق النّقد فهي تتقدّم بوتيرة سريعة، فقد انتهت الجولة الأولى “بنجاح” وستعقبها جولة أخرى في شهر مارس القادم، ووزيرة الماليّة تقول أنّ الاتّفاق على القرض سيكون جاهزا في شهر أفريل القادم. وأمام الأزمة الحاليّة في الغذاء عالميّا وارتفاع أسعار الموادّ الأساسيّة، ستبتلع كلّ القروض في الاستهلاك مرّة أخرى وسنعود إلى نفس المربّع.
-
الأسعار العالميّة تشتعل ومعها ستنفجر الأسعار في تونس وسيكون النّقص واضحا في الموادّ الأساسيّة وهو ما بدأ يلمسه النّاس لمس اليد. فماذا سيفعل المسؤولون في تونس؟ لا شيء غير خطابات بائسة حزينة عن أزمة عالميّة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، يتّخذونها ستارا (شفّافا) يُخفون بها عجزهم وتبعيّتهم، أمّا الرئيس فسيخطب عن اللّصوص والسّرّاق، ثمّ يُحمّل المسؤوليّة للقضاة أو للمسؤولين ليقوموا باسترجاع المسروق، وفي النّهاية لا حلّ إلّا طبخة الحصى، تسويفا ومماطلةودعوات إلى الصّبر والانتظار، انتظار أن تنفرج الأزمة العالميّة وتنخفض الأسعار. أمّا الوسط السياسي فلا حلول عنده إلا الحديث عن الحوار وضرورة البحث عن حلول، نعم هكذا يتحدّثون “ضرورة البحث ” بما يعني أنّهم لا يملكون الحلول.
وخلاصة الأمر
السياسات المرسومة لتونس جعلتها في تبعيّة وجعلت كلّ أزمة تحدث في العالم ولو كانت في مكان قصيّ، تُصيبنا ونتأثّر بها قبل غيرنا، فهل قدرنا أن نكون مرتهنين للغير ولأزماتهم؟
يقول الله تعالى في محكم تنزيله:
(وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا)
الأستاذ محمد الناصر شويخة
CATEGORIES كلمة العدد