جريمة دولة: مشروع بئر “وادي الرتمه” بنفطة، ماء تجعله الدولة سرابا
عاشت البلاد خلال الصائفة المنقضية اضطرابات مسترسلة في توزيع المياه سواء للشرب كما للري, وذلك في مناطق عديدة, ما جعل وسائل الإعلام تسلّط الضوء على الموضوع تحت عنوان “شح المياه في البلاد التونسية”, وهو أمر طبيعي في وضع كوضعنا الحالي, حيث تستغل سلطات الإشراف عدسات الإعلام وأقلامه وتبث فيه أخبارا وتصريحات لغاية المغالطة للتغطية على عجزها عن التحكم في مقدرات البلاد من المياه وحسن استغلالها, وفساد القوانين المتبعة التي جعلت من تونس الخضراء أرضا جرداء رغم توفر المياه في جوفها لعيش أجيال وأجيال في اكتفاء كلي, لكن أرض تونس الطيبة تبوح بما تحوي لتكشف زيف ادّعاءاتهم ومدى تورطهم في جريمة العبث بخلق الله, ولزائر الجنوب التونسي وقاصديه أن يمرّوا على عديد الآبار ذات الطاقة الهائلة هناك, ونخص بالذكر منها “بئر وادي الرتمه” الموجود بمعتمدية نفطة القريبة من تلك الحدود البغيضة الفاصلة بيننا وبين إخوتنا في الجزائر.
تم حفر بئر “وادي الرتمه” الفلاحي بمعتمدية نفطة من قبل شركة رومانية متخصصة في التنقيب عن المياه والنفط, وانهمر منه الماء بتاريخ 3 ديسمبر سنة 2007, ويُقدر منسوب المياه بهذا البئر ب 200 لتر في الثانية, وقد انجز بدراسة فنية تشمل 80 هكتار لغراسة النخيل و 20 هكتار للزراعات الصغرى تحت البيوت المحمية والمسخنة بالمياه الجوفية الحارة، ومنذ ذلك التاريخ والمياه ضائعة كضياع آلاف الشبان الذين ينتظرون هذا المتنفس شبه الوحيد إلى يومنا هذا، حيث تركوا نسبة 20 لتر في الثانية تتدفق بشكل مستمر مهدورة وسط سبخة شط الجريد المالحة والغير صالحة للزراعة,هكذا مهدورة كما هدرت ثورة تونس وأعيدت إلى مربع المكر القديم.
عشر سنوات مرت على وجود البئر وهو على حاله, يبعث المياه الحارة فوق سطح الأرض حتى كوّنت شاطئا فعليّا وسط “شط الجريد” الذي كان يفتقر إلى الماء, دراسة بعد دراسة، ومقاول بعد مقاول، وتسويف بعد تسويف، واليوم وبعد كل تلك السنوات, قدِمت سلطات الإشراف وأعلنت عن إضافة مشروع ” واد الرتم2″ كخطوة ثانية لن تسبق الخطوة الأولى التي طال انتظارها بأي حال من الأحوال. سيل من الأوراق لا يختلف عن سيل مياه البئر في الصحراء هدرا وضياعا. تردُّد حول المكان وصلوحية الأرضية والتربة يدين بكل تأكيد الدراسة المرتجلة والإرادة السياسية الضعيفة أو قل الغائبة أصلا.
في أيام حكم الهارب بن علي كانت السلطات الجهوية تبرّر هذه الجريمة وهذا العبث بعدم قدرتهم على التصرف فيه بدعوى أنه مشروع رئاسي وتأتي التعليمات فيما يخصُّه من فوق, فهل للهارب أن يحمل عنهم اليوم وزر ما اقترفوه في حق هذا البلد وأهله من جرم فيه من الفساد في الأرض ما يندى له الجبين؟ وهل لهم من حجة أمام الله وحال الجريمة لا تزال على ما هي متواصلة تواصل هدر ماء الحياة في هذه الربوع؟
لقد أصبح ملف مشروع”وادي الرتمه”ملفا للإستهلاك السياسي أكثر منه ملفا للتنمية وما تقتضيه النجاعة من بساطة الإجراءات الإدارية وسرعة الإنجاز. والوسط السياسي الرسمي ـإلا من رحم ربي ـمشترك في ذلك سواء أكان في الحكم امتصاصا لغضب الناس, أم في المعارضة طمعا في أصوات المقهورين ودعوة للمشاركة في هذه الحياة السياسية العلمانية المتردية ونباتها النكد.
إن المعالجة الصحيحة لمشاكل الإنسان في كل مجالات الحياة لا تكون إلا انبثاقا عن قاعدة العقيدة الراسخة، لأن الإنطلاق من قاعدة فصل الدين عن السياسة والشأن العام هو سبب انحطاط المسلمين في كل مكان، وما ضنك العيش إلا عرضا من الأعراض التي لا تزول إلا بزوال سببها والعودة إلى حكم الإسلام.
فالإسلام وشرعه الحكيم الذي لا يفرط في الحياة من شيء ينظر إلى مسألة الأرض نظرة الرحمة التي لا تعطل الأرض كمصدر أساسي للقوت لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من أحيا أرضا ميتة فهي له” وليس كنظرة الرأسمالية الظالمة التي تحتكر الأرض لتصبح مجرد أرقام وخرائط على رفوف وزارة الشؤون العقارية وأملاك الدولة. كما ينظر الإسلام إلى مسألة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي نظرة الوحي العادلة التي تجعله من الملكية العامة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :” الناس شركاء في ثلاث:الماء والكلأ والنار” وليس كنظرة دولة” الحداثة” التي تعطل مياه المائدة العميقة بأرض الجريد” مائدة الأطلس”ذات الثروة المائية الكبيرة والممتدة بين المغرب والجزائر وتونس وليبيا. وهذه الثروة كغيرها من الثروات الباطنية لم تنتفع بها الأجيال السابقة ولا الحاضرة ولن تنتفع بها الأجيال القادمة كما تزعم الدولة دائما ما دمنا تحت هذا الحكم الجبري في هذه السنوات الخداعات لأن هذه الثروات مثال حي عن سيادة مفقودة ويد استعمارية طولى تتحكم في مصائرنا ظاهرا وباطنا.
ثنائية الأرض والماء ثنائية حيوية لا تفقهها العقلية الرأسمالية المتحكمة في حياتنا بل هي أحكام شرعية من تشريع خالق الأرض والسماء والماء يعمل الواعون المخلصون لإيجادها على أرض الواقع في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. وإن ذلك كائن قريبا بإذن الله.
“ألا إن لله ما في السماوات والأرض،ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون”.
عبد المجيد الحشاني