حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال : أظلّ الأمّة هذه الأيّام شهر رمضان المعظّم، هذا الشّهر المبارك الذي يخضع فيه المسلمون سنويًّا لما يشبه (الحمية العقائديّة) فيستقبلونه بالطّاعات والقربات، ويجدّدون فيه صلتهم بخالقهم ويتزوّدون بشحنة روحانيّة تميط عن النّفوس ما كدّرها من وساوس الشّيطان وعن القلوب ما ران عليها من أدران الحياة الدّنيا…وهو شهر ارتبط ذكرهُ بالقرآن الكريم ارتباطًا عضويًّا: فقد شهد نزولَه جملةً من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدّنيا (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان) كما شهد انطلاق نزوله وحيًا تفصيليًّا منجّمًا على قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طيلة 23 سنة، فلا غرابة أن سُمّي شهر القرآن وأن اتّخذه المسلمون موعدًا سنويًّا لتعهّد كتاب الله حفْظًا وتدبّرًا وقراءةً وترتيلاً… لذلك واغتنامًا منّي لنفحة من نفحات هذا الشّهر الكريم، فإنّي أعتزم أن أتفرّغ فيه للذّود عن حياض كتاب الله وردّ ما ألصقه به الاستشراق الكولونيالي من أباطيل وافتراءات، ناهيك وأنّ أبواقه المحليّة ما فتئت تروّج لها بتوجيه من الاستعمار لمحاربة العمل السياسي على أساس العقيدة الإسلاميّة وعرقلة مشروع الأمّة خلافة راشدة على منهاج النبوّة…
المصادرة الرئيسيّة
إنّ أقصر طريق لتحريف العقائد والمبادئ وتقويض أركانها هو استهداف مصادر تشريعها ونصوصها التّأسيسيّة فتفقد خصوصيّتها وتميُّزها ومبدئيّتها وطاقتها التّشريعيّة ويُؤتى بنيانُها من القواعد… من هذا المنطلق شنّ أعلام الاستشراق الكولونيالي ومُريدوهم حربًا شعواء على الكتاب والسنّة والإجماع، وتفنّنوا في الطعن فيها ونسج الشّبهات حولها مراوحين بين إنكارها جملة أو ضرب مصداقيّتها وحُجيّتها أو جرّها عُنوةً لشهادة زور دافعها إيديولوجي سياسي لا عقدي تعبُّدي :فيما يخصّ القرآن الكريم فقد شكّكوا في نصّه وقدحوا في حجيّته كمصدر أساسيّ للتشريع مُتصنّعين التّجرُّد والموضوعيّة والبحث العلمي النّزيه وبنوا مطاعنهم على فريةٍ مفادُها أنّ جمع مادّة القرآن الكريم وتنظيمها وتدوينها عمليّة متأخّرة عقدين عن العصر النّبوي وكانت محفوفة بالمزالق متأثّرة بأخطاء الرّواة خاضعة لنزوات السّاسة وللنّوازع المذهبيّة في ظلّ تكالب شرس على الخلافة بين فرقاء استمات كلّ منهم في البحث له ولقومه عن مشروعيّة دينيّة وسند قرآنيّ…
أمّا عن المصادر التي جُمع منها القرآن فلا يمكن الاطمئنان إليها: فالحافظة الشفاهيّة ليست مصدرا علميّا، والحفّاظ قُتل أغلبهم في المغازي ،وعمليّة الجمع ارتجاليّة بعيدة عن الدقّة والتحريّ ،والكتابة وسائلها بدائيّة عُرضة للتّلف والضّياع قابلة للتحريف والصنصرة عصيّة على التّنظيم والتّبويب (عظام ـ جريد ـ جلود ـ حجارة ـ رقاع…) ممّا أحدث اضطرابًا كبيرًا في النصّ النّهائي للقرآن، فلم يخْلُ ـ شأنُه شأن أيّ نصّ بشري عادي ـ من التّحريف والتّبديل والزّيادة والنّقصان والإسقاط والتّصحيف والتّشويش ناهيك وأنّ المسلمين الشّيعة يدّعون إلى اليوم أنّ ما بين دفّتي المصحف العثمانيّ أقلّ من ثلث القرآن الكريم… وبالتّالي فإن لم تكن هذه (الحقائق) مطعَنًا فيه إجمالاً فلا أقلّ من أن تنفي عنه تلك الهالة المبالغ فيها من القداسة وذاك الالتزام الدّقيق والحرْفي بما جاء فيه، والاكتفاء باعتباره مجرّد خطّ عريض ومرجعيّة يُهتدى بها وليس نصًّا لَدُنيّا يُلتزَمُ به شكلا ومضمونا ظاهرًا وباطنًا منطوقًا ومفهومًا…ولم يكتفوا بذلك بل حاكوا ضدّ كتاب الله جملةً من المشاريع المسمومة بمنتهى الخبث والدّهاء والمكر من قبيل: التصرّف في بنيته ـ الفصل عن السنّة ـ الفصل عن العربيّة…وسنتولّى في هذا الشهر الكريم كشفها ودفعها وإبطالها مبتدئين بالمصادرة الرئيسيّة التي اعتملت في رحمها وتمخّضت عنها (جمع القرآن). وبالله التوفيق وعليه التكلان…
…وإنّا له لحافظون
إنّ حفظ القرآن من التحريف والضّياع الذي طال الكتب السّماوية السابقة مسألة محسومة عقائديًّا في أذهان المسلمين: فقد تولاّها الله تعالى بنفسه وبنصّ محكم قطعي صريح (إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون). وهي حجّة نقليّة فاعلة مبدئيًّا في معتنقي العقيدة الإسلامية، إلاّ أنها لا تخلو من نبرة تحدٍّ واستفزاز واستخفاف وإفحام لأعداء الإسلام المستهدفين للقرآن الكريم، لأنّ الله تعالى لم يتولّ حفظ كتابه بمعجزة مخالفة لسنن الكون والحياة بل بإخضاع تلك العمليّة للمقاييس العلميّة الدّقيقة والصّارمة التي تُجمع بها النّصوص الشّفويّة البشرية وتُحفظ وتسلم من التّحريف… وهذا التمشّي من شأنه أن يُقنع العقل ويملأ القلب طمأنينةً ويكبت الكافر المستعمر وأذنابه ويقطع عليهم طريق الدّس والتّشكيك… إلاّ أنّ دهاقنة الاستشراق الكولونيالي سعَوْا إلى اختلاق ظروف تاريخيّة مُزيّفة واصطناع أجواء ملائمة لنيّاتهم المبيّتة تبيض فيها مخيّلاتهم الجدباء وتفرّخ… فعمدوا إلى توسيع الشقّة ما بين عهد النّزول وعهد التّدوين وعهد الجمع لإفساح المجال لافتراءاتهم وإيجاد أرضيّة ومداخل لأباطيلهم… فادّعوا ابتداءً أن تدوين القرآن لم يحصل حين نزوله بإشراف الرّسول بل فيما بعد بمبادرات فرديّة من الصّحابة والمسلمين…ثمّ زعموا أنّ جمع مادّة القرآن قد تأخّر إلى عهد الخليفة الثّالث عثمان بن عفّان أي بعد عقدين عن عصر النبوّة… وطبيعيّ ـ بالمواصفات البشريّة ـ أنّه كلّما تأخّر التّدوين عن النّزول وتأخّر الجمع عن التدوين كلّما بعُدت الشقّة بين النّسخة الأصلية والنّسخة المجموعة ناهيك وأنّ الأوضاع السياسيّة ووسائل الكتابة والحفظ وظروف الجمع كلّها تساهم كما أسلفنا بشكل حتمي ومباشر في هذا الانزياح الخطير عن النّص الأصلي… وبالمحصّلة فإنّنا ـ مع مثل هذه النّسخة من القرّآن ـ بإزاء (أدب إسلامي) بكلّ ما تفيده كلمة أدب من خيال وتأليف ووضع وتصرّف وتكسّب وكذب…بحيث يجب أن تخضع ـ تمامًا كالشعر الجاهلي ـ إلى عمليّة تحقيق صارمة تتولّى صنصرتها وتنقيتها من الشّوائب… هكذا… وقد تولّى التّرويج لهذه الفرية في عشرينات القرن المنصرم (الشيخ) طه حسين في كتابه (في الأدب الجاهلي)…
الجمع النّبوي
إنّ هذه المؤاخذات المنسوجة من طرف أعلام الاستشراق الكونوليالي حول عمليّة جمع القرآن الكريم مزوّرة في وقائعها ومفتراة على التّاريخ الإسلامي: فالثّابت تاريخيًّا أن القرآن جُمع ثلاث مرّات في سيرورة تصاعديّة من الاحتياط والتحرّي لحفظ عين ما نُقِل عن رسول الله… أولى عمليّات الجمع وأهمها كانت على عهده صلّى الله عليه وسلّم وبأعيُنه وإشرافه، وهي عمليّة الجمع الأساسيّة بحيث أنّ العمليّتين الأخريين لم تزيدا عن تمتينها وتزويدها بمقوّمات التحرّي والاحتياط…فقد كان الرّسول مأمورًا بأن يقرأ ما يُوحى إليه على جمهرة من النّاس بتمهّل وتُؤدة حتّى يعُوهُ عنه ويكتبوه ويحفظوه في صدورهم (وقرآنًا فرقناه لتقرأه على النّاس على مُكث ونزّلناه تنزيلاً)… فكانت الآيات تنزل فيُمليها حالاً على كُتّاب الوحي ويأمُرهم بوضعها في مواضع معيّنة من سور معيّنة ثمّ يأمر صحابته بحفظها في الصّدور… وكان المكتوب بين يديه مجموعًا في صحفٍ (رسولاً من الله يتلو صُحُفًا مطهّرة) أي يقرأ قراطيس منزّهةً عن الباطل… وكان يُرغّب المسلمين في كتابة القرآن ويتحرّى عدم اختلاطه بحديثه (من كتب عنّي غير القرآن فليمحُهُ)، وكان هذا دأبه إلى أن اكتمل نزول القرآن… فالإجماع منعقد والدّليل ثابت بشكل يقيني وجازم على أنّ جميع آيات القرآن الكريم مثبتة في سورها قد كُتبت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مباشرة حين نزول الوحي بها من طرف كتّاب مضبوطين عدَدًا وإسمًا معروفين نسَبًا وتقوى منزّهين من طرف الله تعالى عن الكذب والتّزوير (بأيدي سَفَرة كرام بررة)… وأنّ كتابتها كانت في صُحف أي رقاع من جلد أو ورق أو كاغدٍ وفي العظام والجريد والحجارة، ولم يُقبض رسول الله إلاّ والقرآن مجموع كاملاً بتلك الكيفيّة…فالجمع الأول كان فوريّاً ومباشرًا ومزامنًا لنزول الوحي بحيث استقصاه ولم يترك منه شيئًا وكان بين يدي صاحب الرّسالة نفسه وبإشرافٍ منه…ولم يتواكل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في جمعه على الغيب وعلى تولّي الله بحفظه، بل اتّخذ بالأسباب واتّبع السّنن الاجتماعيّة في حفظ النّصوص الشّفوية: فألقى ما أوحي إليه على جمهرة من النّاس وثبّته كتابةً ونقشهُ في صدور الصّحابة حِفظًا ورغّب سائر المسلمين في حفظه وكتابته، وبذلك جُمِع من طريقين: كتابةً وحفظًا بشكل جماهيريّ يستحيل معه ضياع جزء منه أو تحريف بعضه…
جمع أبي بكر
ثاني عمليّات الجمع كانت على عهد أبي بكر أي مباشرةً بعد وفاة رسول الله وكان الغرض منها جمع الصّحف التي كُتبت بين يدي الرّسول في مكان واحدٍ كي لا يضيع بعضها: فقد كثُر القتل في الحُفّاظ في حروب الردّة فخشي عُمر رضي الله عنه أن يؤدّي ذلك إلى ضياع كثير من القرآن ففكّر في جمع الصّحف التي كُتبت بين يدي الرّسول وعرض الأمر على أبي بكر فانشرح صدره له وكلّف زيد بن ثابت ـ وهو من كتبة الوحي ـ بتلك المهمّة الجليلة ،فأخذ يتتبّع القرآن ويجمعُه من الرّقاع والعظام والجريد وصدور الرّجال…وقد اعتمد زيدٌ في جمعه أقصى درجات الدقّة والتحرّي والاحتياط: فكان لا يقبل الصّحيفة إلاّ إذا تحقّقت فيها ثلاثة مواصفات، أوّلاً أن يشهد لها شاهدان أنّها كُتبت بين يدي رسول الله،ثانيا أن توجد مكتوبةً مع أحد الصّحابة، ثالثًا أن تكون محفوظة في صدر أحد الصّحابة… فإذا طابق المكتوب والمحفوظ الصّحيفة المعنيّة أخذها وإلاّ فإنّه يمتنع كما حصل مع آخر سورة براءة فإنّه توقّف عن أخذ الصّحيفة حتّى وجد الآيات مكتوبةً مع أبي خزيمة الأنصاري رغم أنّ زيدًا والذين معه كانوا يحفظونها ويستحضرونها ـ هكذا مبالغةً منه في الاحتياط والتحرّي ـ وقد كان المحفوظ والمكتوب مطابقًا لما كتُب بين يدي رسول الله بلا زيادة ولا نقصان إلى أن أتمّ القرآن الكريم… وقد ظلّت تلك الصّحف محفوظةً عند أبي بكر ثمّ عند عمر ثمّ عند حفصة أمّ المؤمنين وكان المسلمون يحفظون ما فيها عن ظهر قلب ويتناقلونه فيما بينهم إلى أن وصل إلينا بالتّواتر الذي يستحيل معه التّحريف…
المصاحف العثمانيّة
ثالث عمليّات الجمع وآخرها كانت على عهد عثمان بن عفّان رضي الله عنه وهي التي أحاطها المستشرقون بهالة من الأهميّة واختزلوا جمع القرآن فيها لأنّها متأخّرة عن العصر النّبوي ،رغم أنّ ما قام به عثمان ليس جمعًا للقرآن بقدر ما هو نسخ ونقلٌ لعين ما كُتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كثُر الاختلاف في وجوه قراءة القرآن بين المسلمين، فكان أهل الشّام يقرؤون بقراءة أُبيّ بن كعب وأهل الكوفة بقراءة عبد الله بن مسعود وأهل البصرة بقراءة أبي موسى الأشعري. فأدّى ذلك بهم إلى تخطئة بعضهم وتبادل التّكفير،وقد أفزع هذا الاختلاف الصّحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فدخل على عثمان وقال له (يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنّصارى)… فأخذ عثمان الصّحف من حفصة واستنسخ منها سبعة مصاحف أُرسلت إلى الأمصار (المدينة ـ مكّة ـ الشام ـ اليمن ـ البحرين ـ الكوفة ـ البصرة) وأمر بما سواها من الصّحف والمصاحف أن يُحرقَ…فما قام به عثمان هو جمع للمسلمين على مصحفٍ واحد أي على خطٍّ واحد وإملاء واحد مطابق لخطّ وإملاء الصحف النبويّة ،فما وافقه من القراءات صحّ وما خالفه فهو مردود… وبالمحصّلة فالمصحف الذي بين أيدينا اليوم هو عينه الذي نزل على رسول الله وهو عينه الذي كان مكتوبًا في الصّحف النبويّة وهو عينه الذي جمعه أبو بكر في مكان واحدٍ وهو عينه الذي نسخ عنه عثمان النسخ السّبعة وهو عينه القرآن الكريم في رسمه وإملائه وترتيب آياته وسوره محفوظا من الله تعالى ثمّ جريًا على سنن الكون والحياة…