حاجة البشرية الحتمية لدولة الإسلام

حاجة البشرية الحتمية لدولة الإسلام

        آلت أوضاع الإنسان، في عالم اليوم، إلى حالة من القلق واهتزاز الثقة بكل شيء، بعد أن مد النظام الديمقراطي الرأسمالي كلكله على البشرية قاطبة. فلا فرنسا، مهد هذا الفكر ونظمه المنبثقة عنه، ومن ورائها أوروبا بقيت ترى في فكرها القدرة على الاستجابة لقضاياها فصارت تبحث عن طريق ثالث لا زال مجهولا لديها، رغم تتالي الأزمات عليها، ولا سائر البشرية التي أُخضعت لفكرها وهيمنتها بالحديد والنار لازالت ترضى بذلك أو يخدعها زيف هذا الفكر وطروحاته، بل هي تتشوّف إلى من يخلصها من رجسه، وضنكه. فإنسان اليوم لم يعد يثق بغده وهو وجل يحذر أي همّ سيبغته. وهو لا يرى في الأفق بوادر انفراج لأزمات تراكمت عليه في كل جوانب حياته. فلا وضعه الاجتماعي، في علاقته بأسرته، يوفر له الراحة النفسية أو الأمان الذي نشده فطريا حين سعى لتكوين هذه الأسرة، ولا وضعه الاقتصادي والمالي يشعره بالأمان وهو يرى ثمرة جهوده وعصارة عرق الأيام تستنزفها ضرورات الحياة على وجه غير طبيعي، وتسلبها منه الضرائب التي تنزل عليه من حيث لا يدري وتحت أي مسمى. ولا حتى انتماؤه العرقي ظل عنده الموئل الذي يأوي إليه إذا أهمته الخطوب فصار يطوّح في أرجاء الدنيا، لا تردّه صحاري ومجاهيلها أو تحجزه بحار بأهوالها، بل لم يعد يعير قوانين فرضتها عليه حكومات ونظم فقد كل ارتباط مجتمعي بها أي أهمية، إلا أن يهاجر، عسى أن يبرأ من القلق وعدم الاطمئنان، ويجد المراغم والسعة، لما انعدمت الثقة في القائمين على شؤون الناس في مجتمعه الأصلي.

      فالنشوء الطبيعي للدول ( الحكم ـ السلطة ) في الجماعات البشرية، تكون غاية الغايات من وراء إنشائها، كفاية المجموعة هم الإحساس بالانتماء، والشعور بالاطمئنان وتوفير الأمان، مما يفسح المجال لسائرهم التفرغ لإعمار الحياة وتحقيق الغاية من وجودهم فيها. ولا يكون ذلك، أي بلوغ غاية الغايات تلك، إلا إذا أسست الدولة الحامية والراعية (الحكم والسلطة) على مفهوم يجتمع عليه الحاكم والمحكوم،  يؤمن به ويرضاه الجميع، فتقيمه السلطة، ويضمنه الدستور والقوانين، ويراقب كل ذلك أفراد الناس والهيئات المؤسسة على ذلك المفهوم.

     وهنا يتحتم السؤال الذي لا يمكن تجاوزه أو تغافله، وهو ما هي الجهة المؤسسة لذلك المفهوم الذي تبنى على أساسه المجتمع والدولة ( الحكم ــ السلطة ) والذي تستقى منه فروع القضايا وتبنى على أساسه أحكام معالجاتها؟ أي ما هي الجهة التي يُستند عليها أو تُودع عندها مصائر الناس؟ لا يكون ذلك إلا لأحد جهتين لا ثالث لها، تعطي كل منها النظرة للحياة ولحقيقة الوجود (ما تعارف عليه الناس أنه العقيدة) لتكون أساسا لجملة المفاهيم التفصيلية عن الحياة وقاعدة النظر إلى جزئيات الحياة المتصلة بحاجة الفرد والجماعة.

ويسند ذلك إلى:

       ــ أولا: عقل بشر، يتصف بالإبداع والعبقرية، ويتميز عن سائر الناس بسعة الإدراك وعمق النظر. يفتح للناس أفقا مقابل الهوة التي تردوا فيها، يجيب عن الأساس الذي ينظر من خلاله للحياة (وهو ما تواضع الناس على تسميته بالعقيدة)، ويمكن أن نشير، مثلا، إلى “جان جاك روسو” واعتبار كتابه “العقد الاجتماعي” حجر الزاوية في الفكر السياسي والاجتماعي الحديث، والذي أسس لعقيدة فصل الدين عن الحياة، وهو أس النظام الديمقراطي الرأسمالي. أو يمكن أن نشير كذلك في سياق حديثنا عن، عقل بشر، إلى كارل ماركس مؤسس الفكر الاشتراكي و”دكتاتورية البروليتاريا” والمبشر بالشيوعية المطلقة والذي أسس للعقيد المادية

       ــ ثانيا: الوحي الذي يوحيه الله جل وعلا لرسوله، مبينا للناس حقيقة الوجود من كونه محدثا مخلوقا لخالق، أزلي واجب الوجود (عقيدة أن لا إلاه إلا الله، محمد رسول الله). جاعلا العقل وحده دليلا على صحة ذلك وإجابته على حقيقة الوجود وموقع الإنسان فيه ــ

فلفتت هذه العقيدة انتباه الناس إلى  فداحة التوجه نحو الأصنام الحجرية، أو غيرها من المظاهر المادية أو جرم الخضوع لأصنام اليوم، فكرية كانت أو مادية أو استسلامهم إلى الطغاة منهم. بل فرض الخضوع لفكرته وأن تتجسد في مجموعة الأفراد، وأن تنصهر بها الأمة بكليتها، ولأن تتخذها قضية لها وما انبثق عنها من أحكام، وما بني عليها من أفكار، أي تجسيد الإسلام في الحكم والعلاقات وسائر شؤون الحياة.

        وعلى هذا يبقى للناس، مفكريهم ومثقفيهم منهم، أن يستنبطوا حلولا للقضايا الجزئية المتجددة التي تغطي أي شأن من شؤون حياتهم من الأساس الفكري الذي آمنت به غالبية الناس وارتضته أساسا فكريا لهم، وذلك سواء أتبنوا هذا الفكر واعتقدوه أو غيره.

      أما صحة الفكرة الكلية الواجب اعتناقها واتخاذها نهج حياة تكون من صدق انطباقها على الحقيقة، وأما صدق المعالجة فتكون من دقة انبثاقها عن أصلها الفكري، وبذلك وحده يضمن انسجام أفكار الناس ومشاعرهم ويثبت بذلك الاطمئنان المنشود. إلا أن حدثان الأيام وتجاربها أثبتت أنه كلما أوكَل الأمر للإنسان جار وظلم، واستأثر الأقوياء، أصحاب المال والنفوذ والسلطان، فعم الجور والظلم والشقاء والضنك وذلك ما كاد يتساوى فيه الناس جميعهم اليوم، لخضوعهم لفكر بشر قاصر، بخلاف المعالجات المنبثقة عن عقيدة لا إلاه إلا الله محمد رسول الله، فهي لا تكون إلا خيرا وسلما للناس كافة لأنها من عند الغني الحكيم، إذ لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية.

     كان للأساس الذي وضعه الإسلام والجواب الذي قدمه لإزالة الحيرة عن الإنسان في بحثه عن حقيقة وجوده وعلاقته بما قبل هذا الوجود وبما بعده، الدرع الحامي لهذا الإنسان، حيث جعل العقل وحده دليلا على ذلك ــ فأشعره بالأمان وأزال حيرة وقلق كل من آمن بوجهة النظر هذه واقتنع بها عقله واستجابت لذلك فطرته، وأما من عاند واستكبر أو أن عقله لم يسعفه بالقبول وفطرته “ارتبكت” فلم يجبره على القبول ولم يكرهه على اعتناق عقيدته وما انبثق عنها من أشكال العبادة، وضمن له حرمة الحياة وحرمة عرضه وماله وكل ما تعلق بعقيدته من مطعم ومشرب ولم يحمله على ما خالف ما آمن به. وضمن له حقه الذي لسائر الناس، والذي تضمنه نظم الحكم والاقتصاد، وسائر التشاريع العامة المتعلقة بمجموع حاملي التابعية على السواء، وأناط بالدولة حسن ضمان تطبيق كل ذلك، بحيث لا يحابي التشريع العام أحدا ولا يجور على أحد. فقوله سبحانه وتعالى: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” مثلا، عمت كل فرد مهما كان عرقه أو دينه. فلا ظلم لأحد ولا جور عليه. فكانت الدولة الإسلامية التي ارتضاها رب العزة لعباده هي الحل والعلاج للضياع الذي تاهت في مجاهله البشرية كافة.

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ “(24(  الأنفال.

عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This