حراك الريف: إحتقانٌ لا تُنفِّسُه إلا دولة الخلافة
لقد أثبتت هذه الأحداث بوضوحٍ عمق الاحتقان الكامن في نفوس الناس، ومدى خيبة الأمل وانعدام الثقة، فجراحات التاريخ لم تندمل بعد، وأضيف إليها وعود حكومية لم تَعُدْ تقنع أحداً من كثرة ما تم النكوص عن أمثالها. أما من جهة النظام، فيبدو أن الأمر الوحيد الذي يجيده هو القمع أو ما يسمى المقاربة الأمنية خشية أن تنفلت الأمور وتنتقل العدوى إلى مناطق أخرى أو أن تخدش هيبة الدولة.
وبجانب ما يجري في منطقة الريف، فمن الواضح أن مناطق كثيرةً مرشحةٌ لمشهدٍ مماثلٍ، ومظاهرة التضامن الحاشدة مع الريف التي شهدتها الرباط في 11/06/2017 دليلٌ قويٌّ على شيوع الاحتقان وعدم اقتناع الناس بما يشاع عن حراك الريف من نزعات انفصالية أو تآمرية أو حتى داعشية…
إن الحل رغم وضوحه إلا أنه يبدو أنه فوق طاقة الحكام، فالمشكلة الحقيقية هي أن النظام أَلِفَ أن ينظر إلى الناس نظرةً استعلائيةً، يحق له ما لا يحق لهم، ولم يتأسس على النظر إلى الناس بنظرة الرعاية، نظرة الأب الرحيم إلى أبنائه كما بين ذلك رسول الله eحين جعل الرعاية قاسماً مشتركاً بين الإمام والأب فقَالَ: «أَلا كلُّكُمْ راعٍ وكلُّكُمْ مسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[متفق عليه]. فكما أن الأصل في الأب أن يُقدِّم أبناءه على نفسه، يجوع حتى يشبعوا، ويعاني حتى يهنأوا، ويسهر حتى يناموا، يُقيل عثراتهم، ويُكافئ محسنهم ويعاقب مسيئهم عقاب تأديبٍ وليس عقاب حقدٍ ونقمةٍ، فكذا المفروض أن يكون الإمام مع رعيته.
نعم، هذه هي نظرة الإسلام للعلاقة بين الإمام والرعية، وهكذا كان رسول الله eوالخلفاء الراشدون من بعده. لكن حكامنا وحواشيهم أَلِفُوا أن يستأثروا بالخيرات والأموال والامتيازات دون الناس، وألا يُعطوا الناس إلا من فضلات وفتات أموالهم، فإذا قام الناس يستنكرون ويطلبون ما لهم، رَمَوْهُم بكل التُّهم وهيَّأوا لهم القمع والزنازين بدل أن يهيئوا لهم المدارس والمصانع والمستشفيات.
إن ما يؤجج مشاعر الناس هو أن التهميش والفقر والحرمان الذي يعاني منه الريف ومناطق أخرى ليس ناتجاً عن قلة الموارد، فالكل يعلم أن المغرب يفيض بالخيرات، ولكن الواضح أن الأمر يتعلق بــ:
- قرارٍ سياسي يفضل مناطق على أخرى بحسب ولائها أو أهميتها السياسية، أو مدى فائدتها الاقتصادية،
- سوء توزيعٍ للثروة يجعلها حكراً على أشخاصٍ أو جهاتٍ معينة دوناً عن الباقين،
- فسادٍ مالي وتسيُّبٍ إداريٍّ يجعل حتى الصالح من القوانين حبراً على ورق ولا يعرف طريقاً إلى التطبيق.
- استعلاءٍ يستكثر على الناس أن يشكوا ظلم الحاكم أو يظهروا التذمر من سوء رعايته، ولا يستنكف عن رميهم بكل التهم والتنكيل بهم إن هم تجرأوا على ذلك.
أما النقطة الأولى فمنطقة الريف وما يسمى المغرب النافع وغير النافع مثال لها، وأما النقطة الثانية فإن التفاوت الكبير في الثروات صار معروفاً واحتكارات المناجم ورخص المقالع والصيد في أعالي البحار وسنُّ القوانين على مقاس اللوبيات كذلك لم يعد خافياً على أحد، وأما النقطة الثالثة فمن المعروف بداهةً، وآخر أخباره ما تناقله الناس مؤخراً عن فضيحة المبلغ الضخم الذي وُجد في ملكية رئيس جماعة حد السوالم (بلدة صغيرة، 30 كلم جنوب الدار البيضاء)، حيث قيل إنه بلغ 200 مليون درهم نقداً (20.6 مليون دولار)، فإذا كانت جماعةٌ بهذا الحجم ومسؤولٌ بهذا الحجم استطاع مراكمة ثروةٍ بهذا الحجم، فماذا عن ثروات من هُمْ أعلى منه؟ وهل يعقل أن الأجهزة الأمنية لم تكن على علمٍ بمدى فساد هذا الشخص علماً أن الشكاوى ضده بلغ عددها مائتين؟ وإذا كانت السلطات تعلم فلماذا سكتت عنه حتى بلغ الأمر هذا المبلغ؟ وأما النقطة الرابعة فهي ما نعيشه اليوم.
إن النظرة الرعوية الرحيمة الشفيقة للحاكم تجاه رعيته والأحكام الشرعية التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي التي تمنع وجود الأمور المذكورة سابقاً فتوجد أجواء الطمأنينة داخل الدولة وتنفس الاحتقان بين الأمة والحاكم، وهذه الأجواء لا ولن توجد إلا في دولة الخلافة على منهاج النبوة، فوحده الخليفة المبايع على كتاب الله وسنة رسوله e، الذي تشرَّب الأحكام الشرعية ونهل مخافة الله وحب عباده من حوض السنة المحمدية، ولم يرضع من ثدي الميكافيلية الانتهازية، ولم يُشْرَبْ حب الدنيا وتكديس الثروات، كفيلٌ بتجسيدها في الواقع، قال e: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ الله رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ»، وَفِي رِوَايَة: «فَلَمْ يُحِطْهَا بِنُصْحِهِ، لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» [متفق عليه]، وقال أيضاً: «مَنْ وُلِّيَ عَلَى عَشَرَةٍ فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَحَبُّوا أَوْ كَرِهُوا، جِيءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلَمْ يَرْتَشِ فِي حُكْمِهِ، وَلَمْ يَحِفْ، فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ لَا غُلَّ إِلَّا غُلُّهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَارْتَشَى فِي حُكْمِهِ، وَحَابَى، شُدَّتْ يَسَارُهُ إِلَى يَمِينِهِ وَرُمِيَ بِهِ فِي جَهَنَّمَ فَلَمْ يَبْلُغْ قَعْرَهَا خَمْسَمِائَةِ عَامٍ» [الحاكم في المستدرك].
بقلم: محمد عبد الله