أجهضت حكومة “الحبيب الجملي” ولم يكتب لها أن تمارس حقا تمتعت به كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وهو جلد الشعب وسحله, وهذا ما كفله لهم دستورهم الوضعي وتوارثوه عن زعيمهم “بورقيبة” وعن “بن علي” من بعده. إذن سقطت تلك الحكومة وعادت كفاءاتها أدراجها فاسحة المجال لجوقة أخرى تحمل اسم “حكومة الرئيس” .وبعد مشاورات بين قصر قرطاج والرابضين تحت قبة قصر باردو أفصح رئيس الدولة عن اسم رئيس الحكومة المكلف خلفا ل “حبيب الجملي” وبمجرد اعلان “قيس سعيد” عن هذا التكليف انخرط الجميع في العزف على نفس الوتر وترديد لحن بعينه دون سواه, وهو نوع وحجم الحزام السياسي الذي يجب توفيره لرئيس الحكومة المكلف الجديد ” الياس الفخفاخ” وقد حصل شبه اجماع على أن يكون هذا الحزام على قدر كبير من الاتساع حتى يضمن مرور الحكومة التي سيشكلها “الياس الفخفاخ” ثم يعرضها على أعضاء البرلمان لمنحها الثقة أو اسقاطها ومن ثمة العودة إلى مربع الانتخابات والتي ستحمل في صورة عدم مرور الحكومة المرتقبة صفة المبكرة أو السابقة لأوانها, وهذا ما يحاول المتسللون لقصر باردو تجنبه لأسباب يعلمها الجميع, ولا يسع المجال لذكرها, وتكفي الاشارة إلى أن غالبية نواب الشعب حظوا بهذه المكانة بالإسعاف الذي مكنهم منه قانون انتخابي يحاكي فساده فساد سائر قوانينهم الوضعية.
ونعود لحزام “الياس الفخفاخ” وهنا نطرح تساؤلا يفرض نفسه: لماذا انحصر الحديث حول الحزام الذي يجب أن يتوفر لرئيس الحكومة المكلف وهو لم يعلن بعد عن حكومة بل لم يشرع في تشكيلها أصلا؟ وهذا ما أكده “الياس الفخفاخ” نفسه حيث قال ” التفاوض حول الأسماء لن يتم في هذه المرحلة حيث أن المرحلة الأولى اليوم هي تسييج حزام سياسي ليكون الأسبوع القادم هو مرحلة التفاوض حول البرنامج…” إذن, “الياس الفخفاخ ” لم يختر أسماء ولم يقدم برنامجا, وفي المقابل يحرص كل الحرص على الحصول على حزام سياسي يمكنه وحكومته الافتراضية كما هو شأن برنامجه من المرور. ويوافقه في هذا التمشي أمين عام “حركة الشعب” “زهير المغزاوي” بقوله “سيخصص الأسبوع الأول للحزام السياسي والأسبوع الثاني للبرنامج الأسبوع الثالث, وهي المرحلة الأخيرة من مراحل تشكيل الحكومة للهيكلة والتركيب..” علما وأن أمين عام “حركة الشعب” أفصح عن ملامح الحزام الذي ينشده “الياس الفخفاخ” وهي متمثلة في “حركة الشعب ” والتيار الديمقراطي” وحزب “تحيا تونس” و”حركة النهضة”, في انتظار أن يتسع الحزام ويضم أحزابا أو ائتلافات أخرى, وهذا طبعا قبل طرح برنامج الحكومة المرتقبة.
يحدث هذا بعد أن صموا أذاننا حول البرامج والاستراتيجيات واعلانهم في السر والعلن أنهم لن يوفرا أدنى حماية لأية حكومة دون الاطلاع على برامجها وأجزموا سلفا أنهم لن يقبلوا بأي برنامج لا يستهدف الفقر ويقضي عليه ولا يكون محوره محاربة الفساد وقطع دابره وبعبارة أوضح لن يقبلوا بحكومة لا يقوم برنامجها على تحقيق أهداف الثورة ويستجيب لكل مطالبها. وعلى هذا الأساس يوفرون للحكومة ورئيسها الحزام السياسي اللازم كي تمر وتنفذ برامجها. لكن ما نراه الآن العكس تماما, فقد وضع “الياس الفخفاخ” ومن حوله العربة قبل الحصان, لا لحمق أو غباء بل هي سياسة متبعة منذ نشأة ما يسمى ب “دولة الاستقلال” حيث العجز عن تقديم الحد الأدنى مما ينفع الناس. فالبرامج الكفيلة بالنهوض بالبلاد عقبة كأداء لا يقوى أمثال هؤلاء على اقتحامها, لأن فاقد الشيء حتما ومؤكدا أنه لن يعطيه. لهذا تراهم يلتجؤون إلى الحيل والألاعيب, فجرابهم لا يحتوي إلا على الخداع والمخاتلة وهذا ما يقوم به اليوم رئيس الحكومة المكلف وحزامه المتكون من أحزاب ادعوا أنهم يمثلون الخط الثوري وأول المدافعين عليه, وبما أنهم لا يملكون من ذلك شئيا جعلوا من حصاد “قيس سعيد” في الانتخابات الرئاسية حصان طروادة ليقتحموا به حصون السلطة. فزادُ “الياس الفخفاخ ” الوحيد هو ما حصل عليه رئيس الدولة الحالي من أصوات, واختزال الثورة وأهدافها في فوز “قيس السعيد” بنسبة كبيرة. وبما أن هذا الأخير كلفه بتشكيل الحكومة يعتبر نفسه نتاجا للثورة ومعبرا عن ارادة الناس وبالتالي بمجرد هذا التكليف تحققت أهداف الثورة وتم قطع وريد الماضي وتجفيفه, وما على الناس إلا انتظار نعيم مقيم دون الحاجة إلى وضع برامج ورسم استراتيجيات.
ثم إن وضع البرامج ليس من مشمولات من يتولى الحكم فهذا موكول للغير فهو من يخطط ويرسم وما عليهم إلا التنفيذ برؤوس مطأطأة وأفواه مغلقة, هذا الغير هو كل مسؤول كبير من القوى الاستعمارية الغربية, تحسم بلاده الصراع مع باقي القوى لفائدتها. وعليه, فالحزام السياسي الذي يطارده رئيس الحكومة المكلف لا يعدو كونه سياجا يحمي لاحقا الفشل الذي ستتخبط فيه حكومته وكل من يتعرض لها بالنقد سترفع في وجهه بطاقة انها حكومة الرئيس الذي انتخبه الشعب وفاز على منافسه فوزا ساحقا, فضلا عن كونه يمتاز بنظافة اليد ويتصف بتواضع نادر إلى درجة أنه يحتسي قهوته في المقاهي الشعبية ويستقبل المهمشين والمضطهدين في قصر الرئاسة ويعانقهم ثم يحملهم مسؤولية تغيير أوضاعهم لأنه ببساطة لا يملك برامج مثله مثل كل افرازات هذا النظام.