يكاد المرء لا يستطيع أن يجد رابطا بين أن يتحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أزمة تعيشها بلاده حين يكشف، وهو الرئيس الذي بيده السلطة العليا، عن “نزعات انفصالية” تتهدد وحدتها، أو حين يحذر من النزعات المتطرفة التي استشرت، بحسب قوله في أنحاء عديدة من التراب الفرنسي، وتحذيره من اهتزاز قيم الجمهورية أمام قيم الدين لما أشار إلى “من يوظفون الدين للتشكيك في قيم الجمهورية الفرنسية”، وبين أن يُصدر حكما، إطلاقيا، أن الإسلام “ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”، إلا أن يكون الإقبال، اللافت للأنظار، للإنسان الفرنسي وكثير من أهل أوروبا، للبحث في حقيقة الدين الإسلامي الذي يعيش بين ظهرانيهم، والنظر في قيمه التي يحرص عليها من استوطن أرضهم من أبناء الجاليات المسلمة، ومقارنتها بالقيم المتهافتة للديمقراطية الرأسمالية، ودخول الأعداد المتنامية من شبابهم في الدين الإسلامي باقتناع لافت، هو الأمر الذي حدا بالرئيس الفرنسي وحكومته، ومجلس شيوخها، ومعظم الأحزاب السياسية فيها ومراكز دراستها، إلى الإجتراء على الإسلام والتقول عليه، لما يعلمون أن لا خشية لديهم من ردة فعل حكام المسلمين في أرجاء العالم.
فالقول أن ماكرون افتعل هذه الأزمة للتغطية على الإخفاقات في السياسة الخارجية والداخلية، أو فشله في مكافحة وباء كورونا وعجزه عن إنعاش الاقتصاد، وأنه بعد تراجع شعبيته أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة، واستعدادا للانتخابات، اختار المسلمين ككبش فداء للتنصل من مسؤولياته، ما هو إلا تسطيح للقضية، وانحراف بها عن منطلقاتها وتضليلا عن أهدافها وغاياتها. بل إن استهداف الإسلام كوجهة نظر، وكنظام حياة، واستهداف كل من يعمل على إيجاده مطبقا بوصمه بالإسلام السياسي وتحميله جريرة التصدع البارز في نسيج المجتمعات الغربية هو الأساس الذي يحدد مواقف وسلوك السياسة الفرنسية.
أمام أزمة المجتمع الفرنسي والغربي عموما، بتهافت قيم ومفاهيم الديمقراطية والرأسمالية، وانتفاض أعداد متنامية من أبناء هذه المجمعات، وتهديدهم لسيطرة الطبقة الحاكمة، ووضعهم نمط العيش في وضع الاهتزاز، لم يجد الساسة الفرنسيون ومختلف مراكز القرار لديهم، إلا استعداء الإسلام والمسلمين بالدفاع عن مجلة “شارلي هيبدو” لما أعادت نشر الصور المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بذريعة حرية الصحافة وحرية التعبير لما قال ماكرون “…في فرنسا هنالك أيضا حرية التجديف (السخرية من الأديان)… وأنا هنا لحماية هذه الحريات” وأيد موقفه وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، لما أعرب عن تضامن المملكة المتحدة مع فرنسا داعيا دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) للاتحاد دفاعا عما وصفه بحرية التعبير. ودعم الاتحاد الأوروبي موقفه بأنه سيظل يدافع عن قيمه والتي تشمل حرية التعبير وحرية الأديان. فكانت ذريعة الإرهاب هي الغطاء الذي يتخفى خلفه وضع قيمة حرية التعبير فوق قيمة المس من عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، في اختبار متجدد لمدى خضوع وخنوع الأنظمة في العالم الإسلامي. كانت أحجية إبراهيم العويساوي، التي لم تفك طلاسمها، والذي حل بنيس الفرنسية يوما قبل عملية الطعن وهو الذي لم يؤثر عنه أنه انتمى إلى أي تنظيم إرهابي خلال حياته في تونس التي عانى فيها الفقر والبطالة، لتفاجأ عائلته صباح يوم وصوله بأن الكنيسة نفسها التي قضى أمامها إبراهيم ليلته هي التي شهدت تنفيذ عملية الطعن. لا يسع الملاحظ المنصف إلا أن يطرح ألف سؤال وسؤال، أمام إصرار الجانب الفرنسي على تجاهل كل المطاعن في روايتها حول ظروف الطعن هذه واتهامها لمهاجر سري ليس له من هم إلا الفرار من وضع مأساوي كان يعيشه في بلده ورجاء أن يجد سعة في بلد ظن أن لا يظلم فيه. واستطاعت السلطة الفرنسية باتخاذها من “إرهاب الإسلاميين” ومحاربة هذا الإرهاب مدخلا وحجة للزج بالسلطة في تونس في جهدها للحيلولة دون استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة وحرب الغرب على الأمة الإسلامية. وما مسرحية القبول بعمليات ” الإعادة الجماعية والقسرية للمهاجرين وفتح مراكز اعتقال في تونس “إلا فصلا من فصول هذه المسرحية.
جاء وصول وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد درامانان” الذي عبر عن انزعاجه من وجود أقسام خاصة بالمنتجات الغذائية الحلال بالمتاجر في بلاده، إلى بلادنا والمنطقة في إطار تحركات فرنسا لمحاصرة “الإرهاب”، و”جماعات الإسلام السياسي” (هكذا) التي تغذي هذه الآفة التي “تضر” بدول المنطقة، لكن الرويبضات عندنا لم يستفزهم خضم الأحداث، الإِزْرَاءُ عَلى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ، وَالْعَيْبِ لَهُ بل رحبوا بمن تبنى رسميا كل تلك القبائح وفرشوا له الفرش ووقروه، بل فتحوا له ملفات مخابراتنا ومكنوه من المعلومات التي أراد.
إلا أن الذي لم يكن في حسبان ماكرون وهو يفرض إستراتيجيته على الأذلاء، حقيقة هذه الأمة التي وصفها رب العزة والجبروت بأنها، خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأنها لا ترضى بالذل ولا يعلم أحد قدر حبها لنبيها واستعدادها لفدائه. فقد أربكته بردّة فعلها، مع غياب دولتها التي تغذ السير لإقامتها، ولولا خيانة الخونة، حكامها، لكان اعتذاره يملأ الأصداء، وإن غدا لناظره قريب.