ومع أنها أزمة نظام لا تحل إلا باستبداله بنظام رباني عادل، ولكن حسبنا أن نذكّر بملف واحد من ملفات الفساد التي سيبقى هذا النظام عاجزا على فتحها لأنه أس البلاء وسبب الأزمات المتراكمة، وليناظرنا في ذلك كل حملة لواء مكافحة الفساد وعشاق البطولات الوهمية ممن كان لهم نصيب من الحكم:
الجميع يعلم أن حقل الغاز “ميسكار” ينتج قرابة 10 ملايين متر مكعّب من الغاز الطّبيعي يوميّا ويغطّي نسبة 60 ٪ من الحاجيات المحلّية، وأن شركة “بريتيش غاز” (شال حاليا) المنتصبة في تونس منذ سنة 1989، تتكفل بالتّنقيب واستخراج وبيع الغاز في هذا الحقل المتواجد على الضّفاف البحريّة لمنطقة صفاقس منذ سنة 1992 دون أن يكون للطّرف التّونسي أيّ نسبة من محاصيل الإنتاج.
وجميع الحكومات المتعاقبة، ساكتة إلى اليوم عن جريمة شراء الشّركة التونسيّة للكهرباء والغاز كلّ الإنتاج التّونسي من الغاز المستخرج من الأرض التّونسيّة مقابل 700 مليون دولار سنويّا بحسب الأرقام الرسمية المصرح به سابقا يقع دفعها بالعملة الصعبة من المال العام إلى المستعمر البريطاني بعد أن قرّر وزير الصناعة السّابق الصّادق رابح إسناد بل إهداء هذا الحقل التّونسي من الأرض التّونسيّة إلى الشّركة البريطانيّة بوساطة من سليم شيبوب صهر المخلوع.
حيث تولّى آنذاك محمود اللّحياني المدير العام للطّاقة بوزارة الصناعة توقيع العقد ليصبح لاحقا مديرا عاما بشركة “بريتيش غاز” في فرع تونس، قبل أن ينضم مهدي بن عبد الله سنة 2006 إلى نفس الشركة البريطانية، والذي تربطه صلة قرابة بصخر الماطري صهر المخلوع، حيث استطاع حمل المشعل إلى اليوم عبر ترأسه لغرفة التجارة التونسية البريطانية، ومن يدري علّه يصبح ضمن قائمة تشكيلة الحكومة القادمة للحبيب الجملي، بعد أن رأيناه يصاحب قادة حزب يوسف الشاهد “تحيا تونس” أثناء مشاورات تشكيل الحكومة؟
لماذا سكت الجميع حين أكد رئيس لجنة الطاقة والقطاعات الإنتاجية بالمجلس التأسيسي شفيق زرقين ذات يوم أن شركة بريتش غاز استخدمت مبلغ 345 مليون دولار بشكل غير قانوني؟
لماذا لا يحدثنا الآن حبيب الصيد الذي ظل مستشارا في قصر قرطاج إلى حين وصول قيس سعيد مؤخرا، عن فحوى لقائه يوم 11 ماي 2015 بالرئيس المدير العام لشركة بريتش غاز Chris Weston؟
سيظل ملف “بريتش غاز” في تونس شاهدا على فساد هذا النظام وعلى تمكينه للشركات الناهبة، مقابل البقاء في الحكم وتمرير القوانين التي تشرعن هذا النهب المنظم، وتفرض على الشعب سياسة التجويع.
ثنائية الفساد والإرهاب
إذا انطلقنا من تصريح يوسف الشاهد نفسه بأن الحرب على الفساد أصعب من الحرب على الإرهاب لأن العدو فيها متستر في الدولة وفي الأحزاب وفي الإدارات، يمكننا فهم الحجة التي يتستر بها النظام لإعادة إنتاج نفسه ومواصلة مهامه المنوطة به منذ الانسحاب العسكري للاستعمار إلى يوم الناس هذا.
نعم، هذه الدولة الوطنية، أو ما يسميه البعض بالدولة الحديثة، ما أنشأت إلا لتكريس واقع الاستعمار وتقسيم المسلمين عبر حدود وضعها الكافر المستعمر وفرضها على الشعوب عبر تنصيب حكام يخدمون مصالحه ويحاربون عودة الإسلام إلى الحكم وبالتالي إلى التحكم في العلاقات الدولية.
مرحلة الثورات، جاءت لتكشف هذه الحقيقة فتسقط القناع عن الحكام وتظهر صورتهم الحقيقية كأقزام وعبيد لدى المستعمر.
ومع ذلك، لم يعتبر الحكام الجدد من الماضي ولم يستوعبوا الدرس، بل تجدهم يصرون على لعب نفس الدور، والتظاهر بأنهم يخوضون حربا ضد تراكمات الفساد، وأن هناك نية وإرادة حقيقية في الإصلاح، مع أن جعل النظام الجمهوري العلماني من المقدسات، والحفاظ على نفس خصوصيات النظام والدولة بنفس الارتباطات الأجنبية التي ينعدم معها مفهوم السيادة، ونفس الفلسفة التشريعية المستوردة، ونفس التوجه الديمقراطي الفاسد في الحكم ونفس النظام الاقتصادي الرأسمالي الجائر، كل ذلك من شأنه أن يديم الأزمة، بل هذا هو مكمن الداء، فكيف يعقل أن يصبح هو نفسه الحل؟
وعليه، فإن الفساد الذي نعيشه ونستشعر وجوده اليوم متأت أساسا من النظام “السيستام”، بوصفه أرضية خصبة لنمو الفساد وتغلغله وإنتاج طرابلسية جدد، أو قل مافيا جديدة.
أما الإرهاب المعولم، فمعلوم أنه صناعة وبضاعة غربية بامتياز، وأن الأنظمة قد استنجدت بهذه البضاعة واستثمرت فيها من أجل بقائها وتمددها، ومحاربة عودة الإسلام عبر حمل لواء مكافحة الإرهاب، والتقرب إلى الغرب بذلك طمعا في تحقيق التنمية واستقبال قوافل المستثمرين بما يحفظ ماء الوجه، وهكذا صار الأمر يروق للأنظمة حيث صارت تستدعي الإرهاب كلما أرادت إشغال الشعب عن قضاياه المصرية أو جعله شماعة تعلق عليه فشلها وعجزها عن رعاية شؤون الناس.
ولذلك، فإن الإرهاب هو الوجه العنيف للنظام الفاسد، أو هو النظام في حالة هيجانه وتشنجه، فيصر على مزيد الهروب إلى الأمام وخلط الأوراق وكلّما اكتشف أمره، ضحى ببعض أكباش الفداء وواصل سيره ومساره غير مبال بإرادة الشعوب، وهكذا يترعرع الإرهاب في بيئة الفساد، ويترعرع الفساد في بيئة الإرهاب، ويغذي أحدهما الآخر، وهما وجهتان لعملة واحدة، هي النظام العلماني المغتصب لإرادة الشعوب المسلمة.
ولوضع النقاط الحروف، لا يمكن مطلقا اختزال قضية النظام الفاسد ووجوب استبداله في شخص يدعى كمال اللطيف، وتعليق كل جرائم النظام في شخص تبقيه أجهزة النظام فوق القانون ربحا للوقت ولتتواصل مسرحية مكافحة الفساد، ولا ينقطع عنا البث رغم الإخراج الرديء.
ملامح حكومة الحبيب الجملي
نأتي الآن إلى حكومة السيد الحبيب الجملي، والتي أعلن أنها ستكون حكومة الإنجاز، ما يحلينا إلى أن الحكومات السابقة هي حكومات التنظير، وأنه جاء لينجز ويحقق الوعود الزائفة على ما يبدو…
وحيث أكد الجملي يوم تعيينه، بأنه سيعمل على إعداد برنامج حكم مشترك بالتنسيق مع كل الأحزاب المتعاونة وبدون تحفظ على أي حزب يرغب في خدمة تونس، معتمدا في ذلك مقياس الكفاءة والنزاهة، ثم أضاف على هذا تأكيدا ثانيا بأن البرنامج الحكومي هو الأساس والمعيار لتشكيل الحكومة، فإن مسار مشاوراته ثم تصريحاته ومواقفه الأخيرة قد جعلت من البرنامج آخر الاهتمامات، حيث صارت القضية متعلقة باستقلالية أعضاء الحكومة عن الأحزاب وصار سبب التعطيل في الإعلان عن القائمة النهائية للحكومة هو التثبت في مدى استقلالية المترشحين للحقائب الوزارية عن الأحزاب، وكأن الانتماء الحزبي تهمة، مع أن البرنامج معد مسبقا كما أشرنا في الجزء الأول وكما سنأتيه بشيء من البيان والتفصيل…
الجميع يقر بأن الحكومة القادمة هي حكومة اقتصادية بالأساس، أو هكذا يراد لها أن تكون، وبالعودة إلى من صاغ برنامج الحكومة الاقتصادي إلى غاية سنة 2020، نجد على رأس القائمة المدعو محمد الفاضل عبد الكافي، الذي شغل منصب وزير الاستثمار والتعاون الدولي ووزير المالية بالنيابة في حكومة يوسف الشاهد، وقد استقال من الوزارتين بسبب شبهات فساد بعد ثبوت إدانته وتخطئته بمبلغ 550 ألف دينار بتهمة تصدير عملة وعدم استرجاعها وفقا لما تقتضيه قوانين الصرف. كما تناقلت عديد الصحف والمواقع آنذاك خبر صدور حكم غيابي بالسجن في حقه، مع تخطئة الشركة التي يشتغل بها بأكثر من 1.8 مليون دينار وفقا لطلبات الإدارة.
هذا الوزير الذي ترأس مجلس إدارة بورصة الأوراق المالية من 2011 إلى 2014، هو من أكثر الشخصيات التي تم استدعاؤها من قبل غرفة التجارة التونسية البريطانية على الإطلاق، وكانت له مشاركات في تونس ولندن حول الرؤية الاقتصادية لتونس. كما كانت له لقاءات عديدة مع سفراء بريطانيا في تونس (السفير هاميش كوويل ثم السفيرة لويز دي سوزا) ووزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أليستر بيرت، وهو مقرب جدا من مهدي بن عبد الله مدير العلاقات الخارجية لشركة بريتش غاز البريطانية (شال حاليا)
كما تم اقتراحه من قبل نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس وعماد درويش مدير شركة “بتروفاك” البريطانية لتولي منصب رئاسة الحكومة، قبل أن يتم الإعلان عن اختيار السيد الحبيب الجملي.
وعليه، وحتى وإن وقع خيار الجملي على غيره، فلن يحيد وزراء المالية والاستثمار والتعاون الدولي والصناعة والطاقة عما رسمته الشركات البريطانية المتغلغلة في تونس وخبراءها أمثال محمد النوري الجويني في عهد بن علي، ومحمد الفاضل عبد الكافي في عهد يوسف الشاهد، بحيث يستأنس بآرائهم وخبرتهم لينحو الاقتصاد في تونس نحو شراكة بين القطاع العام والخاص، في ظاهرها نقلة نوعية بالبنية التحتية نحو تفعيل المشاريع الكبرى وبمؤسسات الدولة نحو الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا الحديثة، وباطنها ضرب للتوازنات المالية للحكومة وتمكين للقطاع الخاص على حساب الدولة، خاصة مع نقص خبرة الطرف العمومي في مفاوضات اقتسام المخاطر التي يتقنها خبراء التحيل في القطاع الخاص، والذين يشترطون على الدولة سرية العقود، علما وأن قانون الميزانية نفسه قد شاركت غرفة التجارة التونسية البريطانية في صياغته كما ورد على لسان رئيسها مهدي بن عبد الله وأنه تمادى في تغييب دور القطاع الفلاحي، ومع ذلك فقد صادق عليه البرلمان دون نقاش ولو بند واحد من بنوده، والأصل أن يعلنوها صراحة بأنها دولة جباية لا دولة رعاية، ولكن انخراطهم في النظام يجعل بقائهم تحت سقفه جزء من المشكل لا من الحل.
أما الجمرة الخبيثة التي وضعت في الدستور، فهي فكرة الحكم المحلي التي يتسابق في تفعيلها جميع الأحزاب ولحركة النهضة النصيب الأوفر في ذلك. حيث صار تثبيت الحكم المحلي واللامركزية شرطا أساسيا للحصول على الدعم الخارجي كما ورد على لسان العديد من المسؤولين الغربيين. هذا فضلا عن التزامات الدولة وتعهداتها للجهات المانحة، وهو ما يفرض على حكومة الجملي، أن تكون مزيجا من الترضيات للداخل والخارج، بحيث يتم تطعيمها ببعض الوجوه التي تخفف الضغط على تونس من قبل المؤسسات المانحة على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
هذه إذن، ملامح أولية عن الحكومة وبرنامجها الذي لن يختلف في مضامينه عن الحكومات السابقة، وإن اختلفت عناوينه وتظاهر أصحابه بالإصلاح والتحفوا بعباءة الثورة، لأن الجدية في التغيير تقتضي الاعتراف ابتداء بأصل المشكل والسبب الحقيقي للأزمات المتعاقبة، والسعي للتغيير الجذري، ولكن ثقة النخبة السياسية في بلادنا بما يقدمه الغرب من برامج مرسلكة وغياب تصورها للبديل الإسلامي في الحكم والإدارة، يجعلها بالضرورة رهينة خيارات ثبت للجميع فشلها، وصدق من قال: الذي يُجرّب المُجرّب، عقله مخرّب.
ختاما، تذكرنا حكومة الجملي بفترة التسعينات التي تنادت فيها دول كبرى لدعم نظام بن علي، وإرساء الديمقراطية وصرف أذهان الناس عن البديل الإسلامي وإنفاق أموال طائلة لتكريس فصل الدين عن الحياة حتى في مناهج التعليم، بحيث ظن بعض الناس بادئ الأمر أن خيار علمانية الدولة هو السبب المباشر وراء إنجاز المشاريع في الفترة الأولى من حكمه، ولكن الشعب استفاق لاحقا على وقع كارثة اقتصادية حقيقية لا نزال ندفع ثمنها إلى اليوم.
لن نقول تمخض الجبل فولد فأرا عند الإعلان عن تشكيل الحكومة، لأنه لن يكون هناك مولود جديد في تصورنا على الأقل، بل هو استنساخ لتجارب الفاشلين في الحكم والرافضين لمسار النهضة على أساس الإسلام عقيدة ونظاما للحياة والمجتمع والدولة، تكريسا للملك الجبري المفروض على الأمة، ولكن الأكيد أن هذا المخاض العسير لن يمنح أصحابه إلا مولودا ميتا، لا حياة فيه ولا امتزاج فيه للمادة بالروح، لأنه حكم بغير ما أنزل الله، ليس دونه سوى الظلم أو الفسق أو الكفر، وهو حرام لا يرضي الله رب العالمين وإن تعلق دعاته بأستار الكعبة، ما لم يقم عليه أمر الله ويستجب إلى كلام الله.