قال رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في معرض حديثه أثناء تسلمه مهام رئاسة الحكومة التونسية يوم 28 فيفري 2020:
“سفيرة بريطانيا جاتني نهار المُعايدة وقاتلي كيفاش تشوف كان يعطيوك الثقة وتوليّ رئيس حكومة، قلتلها أحنا تونس كيما الطيّارة الي تلوج في “البيست” تدور عاليسار وعاليمين بالشوي وبعد تبدا الإقلاع، واحنا بدينا نقربو للبيست وان شاء الله الّي يجيو بعدنا يقومو بالإقلاع” انتهى.
وبالعودة إلى تاريخ “المعايدة” التي تحدث عنها إلياس الفخفاخ، نجد أنه كان يوم الأربعاء 22 جانفي 2020 حيث كان الفخفاخ يقصد بذلك موكب تقبل التهاني بمناسبة حلول السنة الإدارية الجديدة 2020 الذي انتظم في قصر قرطاج بدعوة من الرئيس قيس سعيد، ما يعني أن لقاء الفخفاخ بالمقيمة العامة البريطانية في قصر قرطاج وتبادل أطراف الحديث كان مباشرة إثر تعيين الرئيس واختياره المفاجئ (إن صح أنه اختياره) لشخص إلياس الفخفاخ.
2- طبخة سياسية جاهزة لأيتام على مأدبة اللئام
إثر هذا السؤال العابر من قبل السفيرة البريطانية يوم الأربعاء، انطلقت مشاورات تشكيل الحكومة رسميا بعد ظهر الخميس 23 جانفي 2020، بقصر الضيافة بقرطاج بعد تعيين كاتب الدولة السابق في وزارة المالية “الهادي دمق” رئيسا لديوان حكومة الفخفاخ ليخوض معه “ماراطون” مشاورات تبدو لوهلة أنها لم تكن جاهزة مسبقا، حيث كانت بداية هذه المشاورات مع كل من راشد الغنوشي عن حركة النهضة، سليم العزابي عن تحيا تونس، محمد عبو عن التيار الديمقراطي وزهير المغزاوي عن حركة الشعب، مع إصرار واضح منذ البداية على عدم تشريك قلب تونس استجابة لطلب من الرئيس كما تم توضيحه خلال أول ندوة صحفية يوم 24 جانفي 2020.
مساء الثلاثاء 28 جانفي 2020، كان مسار تشكيل حكومة الفخفاخ على موعد مع رئيس غرفة التجارة التونسية البريطانية ومدير العلاقات الخارجية بشركة شال (بريتش غاز سابقا) مهدي بن عبد الله (وهو صديق السفارة البريطانية في تونس بشهادة السفيرة نفسها، بل هو الذراع الأيمن لسفارة بريطانيا منذ عهد السفير “كريستوفر أوكونور” مرورا بالسفيرة “هاميش كويل” وصولا للسفيرة “لويس دي سوزا” وهو الشخص الذي يهابه كل الوسط السياسي بلا استثناء حيث سجل حضوره في جميع مراحل العملية السياسية في البلاد وما تطلبه ذلك من تشكيل حكومات، كما أنه قريب صخر الماطري وحفيد محمود الماطري مؤسس ورئيس الحزب الحر الدستوري التونسي حين كان الحبيب بورقيبة كاتبا عاما للحزب).
فقد وقع بحضور المهدي بن عبد الله اجتماع مطول وضع الملامح الأولى لحكومة الفخفاخ، بحضور بعض وزراء الحكومة المفترضة على غرار لبنى الجريبي (وزيرة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالمشاريع الكبرى) ومحمد الحامدي (وزير التربية والتعليم)، كما أسند لرئيس ديوان الحكومة السيد الهادي دمق مهمة استكمال جلسات التشاور مع الأحزاب والكتل وحتى ترأسها في العديد من المرات ومنها الجلسة التي حضرها مهدي بن عبد الله نفسها والتي غادرها الفخفاخ وصار منشغلا بالتصريحات الإعلامية بدل الانشغال بتشكيل الحكومة فأعلن عند مغادرته قصر الضيافة أنه سيطلع الإعلام على المستجدات ضمن ندوة صحفية بتاريخ 31 جانفي 2020، وهم ما تم فعلا.
وهكذا، صار دور الفخفاخ ثانويا في تشكيل الحكومة، تماما مثلما كان دوره ثانويا عندما كان وزيرا للمالية وكان الهادي دمق هو من يسطر السياسات ويضع ميزانية الدولة، وجل المديرين العامين بوزارة المالية يدركون جيدا أن هذا الأخير هو الحاكم الفعلي في الوزارة.
3- من هو مدير ديوان رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ؟
الهادي دمق (عمره 63 سنة)، هو خريج المدرسة الوطنية للإدارة. بدأ يشتغل بوزارة التخطيط والمالية سنة 1980، أي منذ عهد بورقيبة. وقد عين منذ سنة 2000 مسؤول ميزانية الدولة من الفئة الأولى (المدير العام) المسؤول عن التنسيق مع بقية مسؤولي ميزانية الدولة، وجميعنا يعلم ما يجب أن يكون عليه التوجه السياسي لمن يصل إلى هكذا مناصب حساسة في الدولة زمن الاستبداد النوفمبري.
ومنذ ديسمبر 2011، عيّن كاتبا عاما لوزارة المالية، فاشتغل مع كل من حسين الديماسي وسليم بسباس وجلول عياد وإلياس الفخفاخ وحكيم بن حمودة وسليم شاكر ولمياء الزريبي والفاضل عبد الكافي، ورحل جميعهم وبقي هو في الوزارة إلى حين تقاعده سنة 2017، أي قبيل مجيء رضا شلغوم.
ليس المجال هنا لفتح ملفات الفساد المالي داخل وزارة تخفي كل أسرار دولة الفساد، ولكن حسبنا أن نشير إلى أن وزارة المالية وفي سابقة خطيرة أعلنت بتاريخ 15 ماي 2015 عن طلب عروض لاختيار لجنة مختصّة أو مكتب دراسات تعهد له مهمة اختيار المسؤولين الجدد على البنوك العمومية الثلاثة المنهوبة (الشركة التونسية للبنك، البنك الوطني الفلاحي وبنك الإسكان) والتي تمت رسملتها من أجل التوفيت فيها، وكان الاختيار على لجنة من بين أعضائها وزير المالية في حكومة السبسي “جلول عياد” والحاكم الفعلي في وزارة المالية الهادي دمق الذي يرأس حاليا ديوان رئيس الحكومة “الثورية” إلياس الفخفاخ. وبعبارة أخرى، فإن مهندس الميكانيك إلياس الفخفاخ، لم يهندس حكومته، بل هو واجهة لهندسة بريطانية تبقي على نفس النظام وتغير الوجوه فقط.
4- وزارة المالية، مجرد أداة لدى أباطرة المال والأعمال
أما علاقة هذين الأخيرين بالمدعو مهدي بن عبد الله، فهي تمر بالضرورة عبر صديق “جلول عيادّ” وحليفه في عالم المال والأعمال المدعو “كمال لزعر” صاحب الشركة المشبوهة الناشطة في الإمارات والسعودية (Swicorp)، والتي التحقت بها صفية حشيشة (زوجة مهدي بن عبد الله) منذ سنة 2005 فصارت اليد اليمنى للمدعو كمال لزعر بل مديرة فرع الشركة في تونس، ولذلك لم يكن غريبا أن يقع إلحاقها زمن “جلول عياد” بديوان الوزير في خطة مستشارة مفوضة فوق العادة لتطلع على جل الملفات الحساسة وعلى أدق تفاصيل الشركات المصادرة وليصل الأمر إلى حد لعب دور قذر في تمكين شركة SWICORP من نيل صفقة التصرف في أسهم شركة إسمنت قرطاج Carthage Cement وربما يفسر ذلك حزمة الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات الثورجية والخسائر المالية الضخمة التي تسببت فيها وليدفع كل من رجل الأعمال لزهر السطا (الشريك الرئيسي) وعدد كبير من المساهمين الثمن غاليا بعد أن شهدت الأسهم تراجعا مثيرا أوصلها إلى نصف القيمة الإسمية والجواد الرابح الوحيد ليس إلا كمال لزعر، المسؤول المباشر لزوجة السيد مهدي بن عبد الله.
الأكثر من ذلك، أن ملف الإرهاب قد فتح فجأة بعد تهديد جدّي للنقيب زياد فرج الله دفعه إلى الظهور العلني، يليه ظهور مسرحية “شوشو” التي جاءت على ما يبدو في سياق تصفية حسابات بين لوبيّات المال والأعمال عبر الاستثمار في موضوع الإرهاب لضرب الخصم الظاهر في الرواية “لزهر السطا”، أما بقية الرواية وطريقة لملمة الموضوع، فعاد الحديث فيه ضمن الغرف المغلقة وعبر مساومات تحت الطاولة.
وبعد تأسيس جلول عياد، لبنك مركزي مواز برأس مال يقدر بـ4000 مليون دينار حيث أطلق عليه تسمية صندوق الودائع والأمانات CDC، فقد عاد المكتب الاستشاري الخاص SWICORPليشرف من قريب على تحالف مشبوه وممنوع مع البقرتين الحلوبتين “صندوق الأمانات الودائع”وشركة الكرامة القابضة التابعة لصخر الماطري والتي يدير قطبها التكنولوجي وزير تكنولوجيا الاتصالات في حكومة يوسف الشاهد السيد أنور معروف، الذي تم الاحتفاظ به في حكومة الفخفاخ، كوزير للنقل واللوجستية، تكريما لجهوده في جمع خبراء ومسؤولين من مختلف الهياكل والوزارات ومن القطاع العام مع خبراء من جامعة أكسفورد البريطانية لمدة ثلاث أيام من شهر جوان 2019، للتباحث في مجال الأمن السيبرني وإقناع الجانب التونسي بضرورة الاستجابة إلى المعايير الدولية في هذا المجال الذي أبدى فيه الجانب البريطاني استعداده للدعم خاصة بعد تعهد مجلس الأمن القومي بتفعيل إستراتيجية الأمن السيبرني.
وحيث أن وزارة المالية من الأهمية بمكان خاصة في المرحلة القادمة، فقد تم استجلاب مهندس الاقتصاد محمد نزار يعيش المدير التنفيذي السابق باتصالات تونس والشريك في مجموعة PWC البريطانية إلى حكومة الفخفاخ، لتبقى هذه الوزارة مجرد أداة لدى تخدم مصالح كبار رؤوس الأموال، تشد عضدها وزارة الاستثمار والتعاون الدولي التي أسندت في حكومة الفخفاخ إلى صديق المهدي بن عبد الله والقيادي في حزب تحيا تونس سليم العزابي حتى لا تخرج الأمور عن دائرة هذا اللوبي الاقتصادي الذي سيعطي دورا مباشر لبريطانيا في مجال الخدمات المالية للبورصة التونسية.
5- بريطانيا هي الحاكم الفعلي والحقيقي في تونس
لم تكتف بريطانيا بهيكلة مصالح رئاسة الحكومة عبر مكتب الدراساتAdam Smith International، وهيكلة وزارة الداخلية عبر شركة Aktisstrategy البريطانية، وإنشاء شرطة الجوار وتدشين المراكز النموذجية وتدريب قوات الإدارة المختصة للحرس الوطني USGNوقوات الجيش التونسي، ولم تكتف بوضع يدها بالكامل على الثروات الطاقية من غاز ونفط واستحواذها لعقود على عدة حقول بنسبة 100% على غرار حقل ميسكار لشركة بريتش غاز، وتسخيرها لأبناء الجيش وجعلهم حرسا لعمليات النهب المنظم والمقنّن للثروة عبر مجلة المحروقات الموضوعة على المقاس.
لم يكفها كل ذلك، لتقيد الحكومة القادمة بعدة اتفاقيات مسبقة في عديد المجالات، ثم تمر إلى فرض الحكم المحلي على الطريقة البريطانية، حيث جاء صاحب الجنسية البريطانية لطفي زيتون لهذا الغرض، ووضع على رأس وزارة التنمية المحلية بعد فصلها عن وزارة البيئة، وهو متحصل على بكالوريوس الحوكمة والتاريخ السياسي من جامعة شرق لندن ثم تحصل على الماجستير في نظريات العلاقات الدولية من جامعة كانتربري ببريطانيا، ولا تكاد تخلو مداخلاته من إشادة بالنموذج البريطاني في الحكم.
هذا دون أن ننسى جهودها في الإشراف المباشر على استقطاب عدد لا بأس به وزراء حكومة الفخفاخ بدهاء سياسي ماكر، حيث قامت بالتعامل معهم واستدعاء العديد منهم وإبهارهم بشكل يشدهم إلى النموذج البريطاني في مجال تخصصهم، ونذكر على سبيل المثالوزير الطاقة منجي مرزوق الذي لعب دورا في فتح ملف الغاز الصخري في تونس أثناء توليه الوزارة في حكومة الصيد مع أنه متخصص في مجال تكنولوجيا الإتصالات، ثم وجدناه عضوا رئيسيا في فعاليات الدورة التاسعة لقمة تونس للنفط والغاز (Tunisia Oil & Gas Summit 2019) بإشراف من مدير العلاقات الخارجية لشركة شال مهدي بن عبد الله، الذي تحدث عن ضرورة التقدم في ملف الغاز الصخري في تونس.
كما نذكر وزير الفلاحة أسامة الخريجي الذي قدم من الأردن بعد الثورة وتم تكريمه من قبل الفدرالية العالمية للمنظمات الهندسيةالمرتكزة في لندن إثر مداخلة له بين أعضاء الفيدرالية، ووزير التعليم العالي سليم شورى الذي كان له لقاء مطول مع نائبة رئيس جامعة لندن المكلفة بالعلاقات الدولية مع إفريقيا والشرق الأوسطIjeomaIchegbu أثناء زيارة أداها مع الوزير السابق سليم خلبوس، ووزير تكنولوجيا الاتصالات محمد الفاضل كريم الذي وقع تكريمه على جهوده في تمكين شركة “فودافون”البريطانية من أول اتفاقية شراكة تعقدها في منطقة شمال إفريقيا، حيث قام بتوقيعها بحضور السفيرة البريطانية “لويس دي سوزا” عندما كان يشغل منصب الرئيس المدير العام لشركة اتصالات تونس.
هذه هي الوزارات التي تكتسي طابعا مهما لدى الأنجليز، تصل في بعض الأحيان إلى حد الخطوط الحمراء التي لا يمكن التنازل عنها، لما لها من دور في إنعاش الاقتصاد البريطاني خاصة بعد مرحلة الخروج الفعلي من الاتحاد الأوروبيضمن استراتيجية يرسمها المعهد الملكي البريطاني، أما بقية الوزارات فالأفضل لديهمأن تدين بالولاء لبريطانيا وأن تكون مضبوعة بثقافتها، وهنا يأتي دور السياسيين في تونس، ليتصارعوا حول شكليات الأمور في دائرة التكتيك ويقنعوا الشعب بما فرض عليهم المسؤول الكبير من ضرورة المرور إلى المصالحة الشاملة، ومع ذلك نجد مثلا أن كاتب الدولة للرياضة في حكومة يوسف الشاهد السيد أحمد قعلول، قد تم اختياره وزيرا لشؤون الشباب والرياضة في حكومة إلياس الفخفاخ، لما له من وزن متأت أساسا من تكوينه في كبرى الجامعات البريطانية، حيث أنه أستاذ محاضر في الإسلاميات بالأكاديمية الأوروبية للدراسات الإسلامية بلندن، وهو متحصلعلى الماجستير في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن.
ختاما، فإن الكلام حول أولويات بريطانيا في تونس، والقطاعات التي تعمل على الاهتمام بها في المرحلة القادمة ليس متأتيا من فراغ أو من تخمينات افتراضية، كما هو الحال عند من ألهتهم شطحات السفير الفرنسي عن تتبع الفاعلين السياسيين الحقيقيين ومدى تغلغلهم بالفعل والإنجاز في كل الأوساط تقريبا. إنما هو مبني على معلومات دقيقة لعل أبرزها ذلك التصريح الذي أدلى به المبعوث التجاري البريطاني لتونس “أندرو موريسون”يوم 15 سبتمبر 2017 لإذاعة شمس أف أم، حيث أكد أن “المجالات التي يمكن أن تتعامل فيها بريطانيا مع تونس خلال الفترة القادمة، هي الفلاحة، الصحة، النفط والغاز، الاتصالات وخاصة الخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات التي بدا أن فيها مهارات كبيرة في تونس، أما الفلاحة فأهم ما تنتظره بريطانيا من تونس، هو أن يوجد لدينا في المملكة المتحدة زيت الزيتون التونسي”.
عندها لم يكن “أندرو موريسون” قد خلف “ألستير بيرت” في منصبه كوزير لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية، ولكننا وجدناه مطلع هذا العام يتحدث من هذا المنصب إلى رجل الأنجليز في تونس المهدي بن عبد الله، ضمن قمة الاستثمار البريطانية الإفريقية التي عقدت في لندن يوم 20جانفي 2020، فأي ثقة هذه التي سيعيدها الفخفاخ والطبخة السياسية قد أعدّها الأنجليز بزيت تونسي خالص؟