حكّام تونس ضدّ التطبيع… حقيقة أم زيف وتضليل

حكّام تونس ضدّ التطبيع… حقيقة أم زيف وتضليل

كثر الحديث في تونس هذه الأيّام عن دعم القضيّة الفلسطينيّة والمقاومة، وتعالت الأصوات بتجريم التّطبيع مع كيان يهود، والمقصود بالتّطبيع هو إقامة علاقات طبيعيّة مع كيان يهود، سواء كانت من الأفراد أم الهيئات أم الدّول، وحُشدت المسيرات لدعم فلسطين والأقصى. 

وتتالت من المسؤولين في تونس عبارات التأييد لفلسطين، والتفاخر بالموقف المبدئي لتونس من مسألة فلسطين والأقصى. 

ويسوّق الإعلام كلّ هذا على أنّه مواقف مشرّفة لتونس ولمسؤوليها، ويصنّف تونس من البلدان المضادّة لكيان يهود والمناصرة لفلسطين والفلسطينيين. خاصّة وأنّ الجميع يذكر العبارة الشهيرة لقيس سعيّد أيّام حملته الانتخابيّة: “التطبيع خيانة عظمى”.

فهل تونس ضدّ التّطبيع؟ 

   التطبيع مصطلح سياسي جديد في العلاقات الدّوليّة يعني “إعادة العلاقات بين طرفين أو أكثر إلى وضعها الطبيعي قبل أن يطرأ على العلاقة بينهم صراع”، وهذا المفهوم يعني إعادة العلاقات إلى طبيعتها بين طرفين طرأ بينهما موقف غير طبيعي، (حرب، أو نزاعات نشأ عنها قطع العلاقات)، ويعني هذا المصطلح كما جاء في قاموس المصطلحات الحقوقية الدولي أن المقاطعة هي: “إجراء تلجأ إليه سلطات الدولة أو هيئاتها أو أفرادها المشتغلون بالتجارة لوقف العلاقات التجارية مع دولة أخرى ومنع التعامل معها أو مع رعاياها بقصد الضغط عليها رداً على ارتكابها أعمالاً عدوانية وما شابهها”.

ومصطلح التّطبيع، حين يُطلق يُفهم منه العلاقة بكيان يهود الصّهيوني، والتّطبيع يعني إقامة علاقة طبيعيّة معه تتضمّن ابتداء الاعتراف بوجوده، ثمّ التعامل معه شتّى أنواع التعاملات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة… إذن فالمعنى المفهوم من التّطبيع هو عدم الاعتراف بوجود كيان يهود واعتباره في حكم العدم فلا مجال للحديث عمّا سوى ذلك من مفاوضات أو علاقات تجاريّة أو ثقافيّة إذ التعامل مع المعدوم مستحيل. 

فهل هذا ما يعنيه التّطبيع عن حكّام العرب ومنهم حكّام تونس؟ 

“التّطبيع خيانة عظمى” هكذا قال قيس سعيّد قبل أن يسكن قرطاج رئيسا لتونس، فصفّقت له الجماهير طويلا، ولكنّ المستور لم يلبث حتّى انكشف، فحين بدأ كيان يهود بعدوانه الأخير على القدس والأقصى وغزّة، ظهر موقف الرئيس  الذي تداولته كلّ وسائل الإعلام:

“جدّد رئيس الدولة التأكيد على موقف تونس الثابت من الحقّ الفلسطيني الذي لن يسقط بالتقادم، وإدانتها لكل الممارسات الممنهجة… لحرمة المسجد الأقصى وللسياسات التوسعية والمخططات الاستيطانية، واستعدادها للقيام بدورها الطبيعي والتاريخي في نصرة الشعب الفلسطيني الأبي، …

وشدّد رئيس الجمهورية على أن تونس، …، ستقوم بواجبها في كل المحافل الإقليمية والدولية في تنسيق كامل مع الأشقاء الفلسطينيين، وهو ما سيتم فعلا في جلسة مجلس الأمن التي دعت لها تونس والتي ستُخصص للتداول بشأن التصعيد الخطير والممارسات العدوانية لسلطات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة.” هذا وقد كلّف الرئيس قيس سعيّد وزير الخارجيّة بدعوة مجلس الأمن إلى النظر في قضيّة فلسطين، وأساس الدّعوة عند قيس سعيّد هي ما يزعمه من شرعيّة دوليّة. بما يعني أنّ قيس سعيّد يدعو إلى حلّ مسألة فلسطين كما حدّدها مجلس الأمن. وللتّذكير فإنّ أوّل قرار لمجلس الأمن كان قرار التّقسيم الذي أعطى لكيان يهود وجودا غير مستحقّ على أرض فلسطين، بما يعني أنّ الدّول الاستعماريّة الكبرى فرضت واقعا جديدا بإيجاد كيان غاصب هو كيان يهود (سمّوه إسرائيل)، ومن هنا نشأت ما يسمّى بقضيّة فلسطين، بما يعني أنّ القبول بكيان يهود هو أوّل التّطبيع وأخطر مراحله إذ هو اعتراف صريح بأحقيّة المغتصبين المجرمين بأرض فلسطين.

إذن فالقول بالشرعيّة الدّوليّة هو أوّل التطبيع وهو أوّل الخيانة، وصرّح قيس سعيّد في مناسبات أخرى أنّ تونس تقبل بما يقبل به الفلسطينيّون، وأنّ تونس مع المبادرة العربيّة (التي قدّمها عبد الله ملك السّعوديّة سنة2002) المعروفة بالأرض مقابل السّلام، أي أن يعيد الكيان الصّهيوني الأرض التي احتلّها سنة 1967 أو بعضها مقابل اعتراف الدّول العربيّة بها.

أليس هذا هو التّطبيع بعينه؟ الاعتراف بكيان يهود ثمّ الاعتراف بسيادته المطلقة على الأراضي التي اغتصبها في 1948، والمفاوضات معه هي فقط حول أراضي 1967 كلّها أو بعضها… وفي هذا الإطار نفهم موقف السياسيين في تونس أنّهم يرون الحقّ الفلسطيني فقط في أراضي 1967. 

هذا بالنّسبة إلى موقف الرئيس سعيّد، ولقد خصّصناه بالكشف لأجل التّضليل الذي مارسه والادّعاء الذي لا ينفكّ يدّعيه في نصرة فلسطين فبيّنّا كذبه وزيف ادّعائه وأنّه سار في ذات المسار الخياني الذي بدأه السّادات وبورقيبة وغيرهم من حكّام العرب. 

أمّا بالنّسبة إلى موقف سائر السياسيين في تونس فهو لا يختلف عن موقف قيس سعيّد فراشد الغنّوشي رئيس مجلس النّوّاب ورئيس حركة النّهضة، لا ينفكّ يتشدّق بالحقّ الفلسطيني وحين التدقيق نراه لا يخرج عن مبادرات السلام بل الاستسلام الخيانيّة التي كرّسها الحكّام العرب ولعلّ الغنّوشي وجد في حركة حماس غطاء لخيانته وتطبيعه بعد أن استسلمت حماس وصارت تنادي بالتفاوض حول أراضي 1967 ورفع الحصار عن غزّة مقابل هدنة طويلة الأمد (أكثر من 60 عاما) بما يعني الاعتراف بوجود كيان يهود وحصر القضيّة في قضيّة احتلال بعض الأرض.

        التطبيع مع كيان يهود خيانة يمارسها حكّام العرب كلّ يوم   

 من المفارقات العجيبة التي نسمعها هذه الأيام أنّه في مقابل الجرائم التي يقوم بها يومياً كيان يهود، والمجازر الوحشية التي يرتكبها في فلسطين، ومقابل الحقد الدفين والعداء السافر الذي تمارسه أميركا وبريطانيا وأوروبا ضد الإسلام والمسلمين ومناصرتها ليهود في تثبيت كيان لهم في فلسطين رغم مجازره واعتداءاته المتكررة، رغم كل ذلك فإن تصريحات الحكام العرب ومنهم المسؤولين في تونس لا يزالون يتوجّهون إلى أمريكا وأوروبا يلتمسون منهم الحلّ. أليس هذا هو التطبيع أليس هذا هو الاستسلام للعدوّ؟ 

هؤلاء يطالبون بالشرعيّة الدّوليّة المزعومة، ويطالبون بالمبادرة العربية التي قدمتها (السعودية 2002) والتي تركز على تطبيع الدول العربية مع كيان يهود مقابل الانسحاب من الأجزاء المحتلة في 1967م،  ويعدّون تلك المطالب مقاومة وتحقيقها هو استرداد الحقّ الفلسطيني. علماً وأن اليهود قد اهتموا بالمبادرة العربيّة وبموضوع التطبيع الوارد فيها وألقوا بموضوع الانسحاب وراء ظهورهم، واستمروا في تقطيع أوصال الضفة وغزة وجعلها كانتونات منفصلة معزولة عن بعضها لا حول لها ولا قوة، يدخلونها كيف يشاؤون ومتى يشاؤون يقتلون ويعتقلون ويفجرون ويهدمون ويجرفون المزروعات، وفي الوقت نفسه يرون في خطة العرب أمراً مهماً لهم وهو التطبيع.

التطبيع هو امتداد للحرب على الأمّة الإسلاميّة والحيلولة دون وحدتها أو إقامة دولتها الواحدة

إن التطبيع العلني والشامل الذي يجري اليوم بين كيان يهود ودول الضِّرار في العالم الإسلامي هو ما سعت إليه بريطانيا منذ أوّل يوم غرست فيه كيان يهود في قلب البلاد الإسلاميّة، فبريطانيا كان همّها ولا يزال أن يُصبح وجود كيان يهود طبيعيّا في قلب البلاد الإسلاميّة الممزّقة إلى دويلات هزيلة عليلة، ثمّ وثت أمريكا بريطانيا وسعت سعيها في أن تبقى بلاد المسلمين ممزّقة بينهم كيان يهود فوجود كيان يهود هو العلامة على تشتّت المسلمين والتطبيع مع هذا الكيان المسخ هو دليل عندهم على التبعيّة المطلقة للمسلمين للغرب، ودعم كيان يهود ما هو إلا حرص على تفتيت المسلمين وتشتيتهم.

إنّ التطبيع، وإن تسارعت وتيرته مؤخرًا بشكل فاضح، ليس بجديد، بل كان موجودًا بين يهود والأنظمة العميلة؛ في الخفاء من وراء ستار، فكان تطبيع أنظمة منسلخة عن شعوبها. أمّا إعلانه اليوم، بكلّ أشكاله (ممن يزعم المقاومة ونصرة القضيّة أو ممن طبّع بشكل مفضوح) والسير فيه بقوة، ومحاولة فرضه تطبيعًا شعبيًا، فسببه احتدام الصراع بين الأمة الإسلامية من جهة، وبين كل من يحارب نهضتها وعودتها إلى دينها وخلافتها. ويظنّون أنّ التضليل سيركّع المسلمين لكن هيهات هيهات فالأمّة قد استفاقت وبيّنت أنّها ترفض وجود كيان يهود أصلا وهي ترفض الخضوع للمستعمر وها هي تواصل ثورتها التي ستقلع كلّ الخائنين والخاضعين والعملاء. 

حكم الإسلام في التطبيع، وكيف يكون التصدي له:

 التطبيع مع كيان يهود يعني إقرار يهود على اغتصاب فلسطين، ولو كان شبرا منها لا فرق بين الأراضي التي اغتصبوها في 1948 أو التي اغتصبوها في 1967، والتطبيع يعني التفريط بأولى القبلتين وثالث الحرمين، والتطبيع يعني موالاة أشد الناس عداوة لله وللمؤمنين، الذي حرمه الله بقوله: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ). وهذا من أعظم الجرائم في الإسلام، وخيانة لله ولرسوله والمؤمنين.

إن التطبيع مع كيان يهود من كبائر الإثم والعدوان؛ لأنه اعتراف بهذا الكيان الغاصب. وعلى الرغم من أن الأمة تجمع على رفض التطبيع، إلا أنه ماضٍ بفعل أشباه حكام؛ لذلك يتوجب على الأمة وهي تقول «لا» للتطبيع أن تفهم وتعي أن التطبيع هو فرع عن أصل، والفرع يموت تلقائيًا إذا قطع الأصل، والأصل هو النّفوذ الاستعماري المتحكّم في بلادنا الذي غرس كيان يهود المغتصب لفلسطين. 

وقف التطبيع ومجابهته لا يكون إلا بقلع نفوذ المستعمرين وعدم الخضوع لهم ومن ثمّ يكون قرارنا سياديّا حقّا، قرار ينطلق من عقيدتنا الإسلاميّة لا من شرعيّة دوليّة ظالمة فاجرة، قرار يتّخذه رجل من المسلمين بايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله الأكرم صلّى الله عليه وسلّم.

  قد يُقال إنّ صاحب مثل هذا القرار معدومٌ في الأمة اليوم؛ لأن كل حكامها أجراء عند المستعمر صانع كيان يهود، ويسارعون في الانبطاح لهم، ولا يقيمون وزنًا للأمة. فنقول إنّ واجبَ كل مسلم أن يكون جادًا في العمل على إيجاد صاحب هذا القرار، خليفة المسلمين ودولة الخلافة، والتي بها يوقف التطبيع بزوال الأصل- نفوذ المستعمر ومن ثمّ يزول كيان يهود.

هذا والنّاظر في الواقع اليوم ليرى أنّ التطبيع قد كشف قوّة الأمّة وإصرارها على الجهاد وكشف ضعف أعدائها، كشف قوة الأمة التي باتت تعي وتلمس أن استرداد فلسطين لن يكون وأشباه حكّام يتسلّطون عليها، بل يكون بإقامة الخلافة الرّاشدة التي بشَّرنا بها رسولنا وقدوتنا، عليه الصلاة والسلام بقوله: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»، وهي التي ستقتلع كيان يهود من جذوره. فيهود مقطوع حبلهم مع الله، وموصول مع أعداء الدين، قال تعالى: (وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِ لِبَنِي إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱسۡكُنُواْ ٱلأَرۡضَ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا ١٠٤) وقال تعالى: (فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُ‍ُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا ٧)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله J يقول: «تقاتلكم اليهود فتسلَّطون عليهم ثم يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» رواه البخاري.

نعم، هذا هو الواقع اليوم، هذا زمن الخلافة بإذن الله، والتطبيع الذي نراه اليوم إن هو إلا علامة كبرى بقرب القضاء على يهود في فلسطين، بعد أن يتجمَّعوا من شَتاتهم في الأرض المباركة فلسطين، فتدخلها جيوش الأمة الإسلامية لتخلِّص العالم من رجسهم.

أ, محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
TAGS
Share This