حملات انتخابية من وحي الحرب الوهمية على الفساد
بمجرد إعلان الموظف السابق بالسفارة الأمريكية و الرئيس الحالي للحكومة “يوسف الشاهد” ما سماها بالحرب على الفساد..طفقت الأحزاب المتناثرة هنا و هناك في قرع الطبول ..وحشد كل طاقاتها لخوض غمار حرب حياة أو موت ..تدور رحاها حول غنائم الانتخابات البلدية المرتقبة..ولم تجد تلك الأحزاب أفضل و أنجع من السلاح الحديث والمتطور الذي ابتكره “يوسف الشاهد” أو الأصح زوده به “المسؤول الكبير” وهو إعلان الحرب على الفساد..لقد كان هذا السلاح شديد الفاعلية ..وبفضله تمكنت الحكومة من تحقيق مكاسب ذاة بال ..يبقى أهمها صرف الأنظار على احتجاجات ولاية تطاوين..والتعامل الأمني الفظيع معها..إلى جانب كون تلك الحرب المزعومة لمعة ولو جزيا صورة “يوسف الشاهد” و حكومته..ومن هذا المنطلق اختارت جميع الأحزاب السياسية في تونس تقريبا أن تزين واجهات دكاكينها بلافتات تحمل شعار مكافحة الفساد و لا شيء غير محاربة الفساد..بعد أن أزالت أخرى تحمل عنوان محاربة الإرهاب..وذلك حسب ما تقتضيه المرحلة ويمليه الظرف الراهن..وفوق ذلك كله ما تستوجبه المصالح الحزبية و الذاتية..وهذا هو الدافع الأساسي إن لم نقل الوحيد وراء انخراط جميع الأحزاب في مطاردة الفساد وملاحقة الفاسدين..ولكن على طريقة كل حزب رفوف دكانه تشكو فقرا مدقعا على مستوى البرامج ..والبدائل ..والحلول الكفيلة بمعالجة العلل التي تنخر جسم البلاد على جميع الأصعدة..وفي المقابل تضج أرجاءه بكل ما لا يمت للسياسة بأية صلة..كبضاعة الدجل..والتلبيس..وشيطنة الخصوم..واقتفاء عوراتهم شبرا شبرا..وذراع بذراع..وان لم يجد يختلق ما يجعل الخصم في أعين الناس شيطان رجيم..لينتزع منه أصواتا تمكنه ترفعه درجة يراها هو علية ..ما دامت تلبي أطماعه ..وتخدم مصالحه..وهذا ما تمارسه اليوم الدكاكين السياسية في محاكاتها للحكومة في الحرب على الفساد.. حيث حمي الوطيس ..وبلغ التراشق بالتهم ذروته..فلا تسمع إلا دوي اتهامات متبادلة بالفساد..مع طنين امتلاك الأدلة ..والقرائن ..والحجج الدامغة على أن ذلك الحزب أو هذا غارق في الفساد من رؤوس أعضاءه إلى أخمص أقدامهم..وسريعا ما يأتي الرد بهجوم كاسح من الحزب تعرض لتوه لغارة مدمرة..وهكذا دوليك..تستمر الحرب سجالا..دون معرفة نتائجها لأنها الآن مقتصرة على الكر و الفر..وساعة الحسم لم تحن بعد.. والغالب على الضن أنها لن تحين بسبب وعي الناس ..فلم يعد ينطلي عليهم عبث الصبيان هذا..فما حققه حزب نداء تونس في الانتخابات السابقة بشقيها التشريعي و الرئاسي لن يتكرر..وهم يدركون ذلك تمام الإدراك..لكنهم لا يفقهون الا هذا التعاطي القذر..فالسياسة بمعناها السامي بعيدة المنال عنهم..ولا يملكون من أدواتها و لو النزر القليل..لهذا هم مصرون على السير في الطريق نفسه..مادامت الغاية هي ذاتها التي من أجلها أقاموا دكاكينهم…نعم الكل يكيل التهم للكل. الكل فوق شبهة الفساد..والكل غارق في وحل الفساد حد النخاع…فهذا النائب عن “حركة النداء” “حسن لعماري”يتهم الناطق الرسمي ل”الجبهة الشعبية” “حمه الهمامي” بتلقي أموالا مشبوهة لتمويل حملته الانتخابية ..ولم يتوان “حمه الهمامي” في عكس الهجوم ..و أسقط حق “حسن لعماري” في الحديث عن الفساد لأنه حسب قول “الهمامي ” متورط في فضيحة جنسية..كما وجه ” حمه الهمامي” تهمة الفساد إلى الوزير “مهدي بن غربية” وهذا الأخير شنّ عليه رئيس حزب “أفاق تونس” “ياسين بن براهيم” عاصفة هوجاء ..جاعلا منه رأس الفساد في البلاد..وقد خصص لهذه الهجمة جولة إعلامية استفرغ) خلالها كل الوسع في تقديم الأدلة على تورط “بن غربية” في قضية فساد..الذي كان بدوره اتهم “يا سين بن براهيم” بالفساد لما كان وزيرا للتنمية.. وبالتالي استغل هذا الأخير موجة الحرب على الفساد ولم يفوت فرصة ركوبها ..علها تعيد حزبه للواجهة من جديد..من بوابة الانتخابات البلدية..والفرصة نفسها اقتنصها “المنذر الحاج علي” العائد لحظيرة “نداء تونس” ورمى “حركة النهضة” بالفساد ..ليأتي الرد سريعا من “عبد اللطيف المكي” وأكد أن رجال “بن علي ” مازالوا يعيثون في الأرض الفساد ..منهم رجال أعمال ..ومنهم من هو في الحكم..وتجنب “عبد اللطيف المكي الاتهام المباشر و اكتفي بمجرد التلميح..ولم يذكر كما فعل باقي الخصوم جهات أو أشخاص بعينهم..وربما يندرج ذلك ضمن تكتيكات حركة النهضة الخبيرة في حرب التخفي..والمواقف المتقلبة..والتخندق خلف التوافقات و الترضيات…ولم يسلم ” الحزب الجمهوري” من نار الاتهامات بالفساد ..حيث وقع الربط بين ما “شفيق جراية” في أحد تصريحاته قبل اعتقاله عن تمويله لاحد تجمعات هذا الحزب..وبمجد اعتقاله ..أكد المتناحرون على الوليمة البلدية على تورط الحزب الجمهوري في الفساد..ولم تشفع ل”يوسف الشاهد” جسارته المزيفة على الفساد و رموزه ..حيث طالته حمم البركان المنفجر..واتهمه البعض بالفساد بمعية حزب “نداء تونس” من خلال اتهام بعض نوابه بمجلس الشعب بالفساد..وقد تحولت “قبة باردو” الى ساحة تناطح بين أحد نواب “الجبهة الشعبية” وبين نواب نداء تونس” فقد بشر “منجي الرحوي” رئيس كتلة “النداء” سفيان طوبال” بقرب موعد اعتقاله نتيجة ضلوعه في عملية فساد..وبما أن دوافع هذه الحرب الطاحنة بين الخصوم هي المصلحة الحزبية دون سواها..فالمصلحة الشخصية أيضا سجلت حضورها وكانت القادح الأساسي لنيران صديقة أصابت أعضاء الحزب الواحد بدل أحزاب منافسة..فالنائبة عن “نداء تونس” اتهمت زملاءها داخل الحزب بالفساد ..مع التأكيد على امتلاكها أدلة تدين شقا ما داخل الحزب..وهنا لسائل أن يسأل ماذا لو أعلن “يوسف الشاهد” الحرب على الارتهان للأجنبي و خدمة المستعمر-هذا طبعا أمر يستحيل وقوعه- أكيد سنشهد التطاحن نفسه بين الأحزاب ..وسنرى و نسمع نفس التهم تكال لهذا الحزب و ذاك بالعمالة ..وتنفيذ أجندات جهات أجنبية..مادامت قاعدة الغاية تبرر الوسيلة هي سيدة الموقف ..والمقياس الأساسي في تعاطي الأحزاب غير المبدئية مع الشأن العام..وصفوة القول لم يجانب أي حزب اتهم حزب أخر بالفساد الصواب..فكل الأحزاب ..من كان في الحكم أو على ربوة المعارضة..هي قلب الفساد و رحاه..بما أنها تشرب صباحا مساء من المستنقع الآسن نفسه..وتركب السفينة ذاتها..بداية من منازعة الله في حقه في التشريع..وصولا إلى الفساد في مظاهره المعاشة في حياتنا اليومية..من ارشاء ..وارتشاء ..ومحسوبية ..و محاباة..وووو…إذن لقد أتاح “يوسف الشاهد” بحربه الوهمية على الفساد للأطياف السياسة أن تجد الوقود الناجع ليشعل كل طيف حملته الانتخابية ..ويعمل على تصفية خصمه باستعمال السلاح نفسه..فكل فئة تلعن أختها..وكل طرف يرمي الأخر بما فيه هو..في انتظار أن تجود عليهم الأحداث بسلاح أخر..يرفعه الكل في وجه الكل..وكله جائز ما دامت السياسة عند هؤلاء ..تقوم على المصالح الحزبية و الشخصية أولا و آخر..أما مصلحة العباد والبلاد فذلك شأن لا يعني من يخوض غمار السياسة من باب القذارة… فلا ننسى القول أن فساد الأشخاص يعالج بالقانون, في حين لا حل لفساد النظام إلا بالإزاحة.