حول المبادرة الزيتونية الوطنية للردّ على مشروع تغيير أحكام الإرث

حول المبادرة الزيتونية الوطنية للردّ على مشروع تغيير أحكام الإرث

في إطار “التنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستور والتنمية العادلة” بيّن مجموعة من الزواتنة موقفهم من قانون المساواة في الميراث ضمن بيان صدر بتاريخ 02/01/2019م، جاء فيه تأكيد المشايخ والأساتذة على رفضهم “القاطع لمشروع قانون المساواة في الإرث المعروض على مجلس نواب الشعب لمخالفته الصريحة للقرآن الكريم”. ولا شكّ أنّ هذا الموقف الشجاع الرافض لتبديل أحكام الشرع المتعلّقة بالميراث مما يشكر لهؤلاء المشايخ والأساتذة، ولا نجد في هذا المقام ما نكافئهم به سوى أن ندعو الله عزّ وجلّ أن يثيبهم ويثبتهم على نصرة الحقّ والدّين.

قد بدأت بالشكر عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يَشْكُرُ الله من لا يَشْكُرُ النَّاس”، وأثنّي الآن بنصيحة عملا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ”، فأقول:

تبيّن لي موقفكم الذي تشكرون عليه، ولكن لم تتبيّن لي صفتكم؛ فهل عبّرتم عن موقفكم من المشروع كعلماء شريعة وأهل اختصاص في أمور فقه الدّين أم عبّرتم عن موقفكم كمواطنين في هذا البلد ليس لهم من صفة سوى المواطنة التي تخوّل لهم إبداء الرأي في مسألة تهمّ الوطن شأنهم شأن بقيّة المواطنين من عمّال مصانع وفلّاحين وأطّباء وعاطلين عن العمل وغيرهم؟ أحسب أنّكم ستقولون: تكلّمنا بصفة العلماء والمشايخ وأساتذة الشريعة أي بصفة أهل الاختصاص الذين من حقّهم بيان الرأي في مسألة تتعلّق باختصاصهم.

وهنا يرد السؤال الثاني: بما أنّكم تكلمتم بوصفكم علماء الشريعة، فهل بيّنتم موقفكم الخاصّ من المسألة الذي يحتمل أن يبنى على العقل أو النقل أم بيّنتم حكم الشرع في المسألة؟ أحسب أنّكم ستقولون: بيّننا حكم الشرع في المسألة. وهنا يرد السؤال الثالث: ما هو حكم الشرع في المسألة؟

والجواب: لا يوجد حكم شرعي في بيانكم، وإنما هو مجرّد تعبير عن موقفكم بالرفض، ولا يخفى عليكم أنّ تعبير العالم بالرفض لشيء ما لا يدلّ على الحكم الشرعي. وبناء عليه أقول: تعلمون أنّ الفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي أو بتعبير القرافي في الفروق هي “إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة”، ولهذا كان عليكم – بوصفكم علماء الشريعة -أن تبيّنوا موقف الشرع من مشروع قانون المساواة بعبارات واصطلاحات شرعية مندرجة ضمن الأحكام الشرعية الوضعية أو التكليفية التي تمثّل خطاب الشارع المتعلّق بأفعال العباد. وبعبارة أخرى: فالواجب عليكم كعلماء أن تبيّنوا بطلان المشروع شرعا، وحرمة القبول به أو التصويت له أو الدعوة إليه، كما أنّ الواجب عليكم أن تبيّنوا حكم من تجرأ على ردّ الأحكام القطعية الثبوت والدّلالة وإبطال العمل بها جحودا وإنكارا لها. فإذا تهيّب علماء الشريعة الصدع بموقف الشريعة وبيان حكم الله صراحة دون خوف ومواربة، فمن يقوم بهذا ومن يتكلّم بعدها؟ علاوة على هذا، تعلمون أن دعاة الحداثة والتغريب في بلادنا يشنّون حملة شعواء على الإسلام والمصطلحات الإسلامية، ولذا رأينا لجنة الحريات الفردية والمساواة تتبّع الألفاظ والمصطلحات الإسلامية في المنظومة القانونية التونسية لإلغائها، ومن ذلك قولهم في التقرير: “عبارة المحرمات مشتقة من التحريم الديني الذي لا يتناسب مع مدنية الدولة”؛ فهم يسعون إلى حذف عبارة المحرمات – وغيرها من العبارات-كخطوة نحو إلغاء المعاني والمفاهيم التي تتضمنها.ولهذا، كان من الواجب عليكم التنبه لكيدهم ومكرهم والردّ عليهم بتثبيت المصطلحات الشرعية المعبّرة عن الأحكام الشرعية لا بتجاهلها وتعمّد عدم ذكرها.

دعوتم “الشعب التونسي إلى الامتناع عن انتخاب من يصوت لهذا المشروع”؛وهذه الدعوة تثير اشكالات كثيرة منها: ما معنى هذا الكلام، وما هي مرجعيته، وفي أيّ إطار ندرجه؟ وهل يعتبر هذا الموقف مجرّد رأي سياسي من جهة غير مسيسة أم هو فتوى شرعية من جهة شرعية صيغت بعبارة غير شرعية؟ اشكالات وجيهة طرحناها لتتفكّروا فيها، ومع ذلك سنغضّ الطرف عنها ونتناول المسألة من زاوية أخرى وهي: تعلمون أنّ الانتخاب لا يتعلّق بشخص بقدر ما يتعلّق برؤية ومشروع وبرنامج، فالمسلم الذي يصوّت لشخص أو لحزب لا يصوّت له بصفته الشخصانية الفردية بل يصوّت في الحقيقة لبرنامجه ومشروعه ومجموع أفكاره التي يتبناها، وتعلمون أيضا أن الأحزاب السياسية التونسية لادينية ولا تتبنى الأحكام الشرعية والمفاهيم الإسلامية وبرامجها لا تقوم على الكتاب والسنة بل مليئة بمخالفات شرعية وأفكار مناقضة للشريعة الإسلامية، ولهذا نسأل: لماذا طلبتم من الشعب عدم التصويت لمن يساند مشروع المساواة في الإرث أو يصوت له في مجلس نواب الشعب، ولم تطلبوا منه مثلا عدم التصويت لكلّ من يخالف الشريعة في برامجه؟ فلو أنّ حزبا ما تبنى في برنامجه عدم تغيير أحكام الميراث وعدم العمل بمشروع المساواة إلّا أنه أقرّ مجلة الأحوال الشخصية كما هي عليه الآن من أحكام مناقضة لقطعيات الدين كما تعلمون، فهل يجوز انتخابه؟ ولو أنّ حزبا ما تبنى في برنامجه عدم تغيير أحكام الميراث وعدم العمل بمشروع المساواة إلّا أنه أقرّ حرّية الردّة والكفر وشرب الخمر والزنى، فهل يجوز انتخابه؟ فأين المقياس في هذا، وأين الضابط؟ وهل يليق بأهل العلم أن يتكلموا بدونبيان الأصول والضوابط والقواعد؟

عبّرتم عن رفضكم “القاطع لخرق الدستور وللتأويل التعسفي لمدنية الدولة بما يحولها إلى دولة لائكية”، وأتوقف عند هذا الكلام لأقول: مصطلح الدولة المدنية عبارة حديثة ليست منضبطة المعنى والمفهوم، وهذا أمر يعلمه كلّ من درس العلوم السياسية والاجتماعية؛ ولهذا فإنّ الحديث عن تعسّف في تأويلها بمعنى حمل العبارة على معنى غير معناها الظاهر، لا يستقيم ولا يمكن إثباته بل العكس هو الصحيح؛ لأنّ الدولة المدنية في اصطلاح أهلها مرتبطة بمفهوم فصل الدين عن الدولة أي مرتبطة بمفهوم العلمانية واللائكية. وبناء عليه، فإنّ دعاة الحداثة والتغريب الذين يربطون مفهوم اللائكية بمفهوم الدولة المدنية لا يتعسّفون في التأويل بل يفسّرون العبارة تفسيرا منطقيا عمليا تشهد له التجربة الغربية. والقصد من كل هذا، أنّه كان من الواجب على المشايخ والعلماء ضبط كلامهم ووزنه بميزان الدّقة والتحرّي.

 وختاما أقول، أن نصرة الحقّ التي هبّ إليها المشايخ والعلماء – بارك الله فيهم وبهم – لا تكون إلّا بالشجاعة في القول الصريح الذي لا يحتمل التأويلات، ولهذا أرجو أن يبيّنوا الأحكام الشرعية بمصطلحاتها الشرعية صراحة، وأن يقتصروا على بيانها دون اعتماد على مصطلحات ومرجعيات قابلة للتأويل كالدولة المدنية والدستور، كما أرجو أن يتقبّلوا هذه النصيحة بصدر رحب. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This