يغلب على الباحثين في شؤون الاقتصاد تعريف المشكلة الاقتصادية بأنها: “نتيجة تعدد الحاجات الإنسانية وتزايدها بصورة مستمرة في ظل محدودية (ندرة) الموارد الاقتصادية المتاحة والتي تستخدم لإشباع تلك الحاجات”، فيجعلون من ندرة الموارد وتعدّد الحاجات أساس المشكلة الاقتصادية، ويجعلون من المشكلة الاقتصادية حجر الأساس الذي يقوم عليه علم الاقتصاد ذاته، إذ إنه يقوم بدراسة المشكلة محاولا استخدام النظريات والقواعد الاقتصادية المختلفة لإشباع أكبر قدر ممكن من الحاجات والرغبات الإنسانية عبر استخدام الموارد الاقتصادية المتوفرة والتي يتميز وجودها بالندرة.
إن هذا التعريف للمشكلة الاقتصادية غربي، صاغه مفكرو الغرب وفق رؤيتهم الاقتصادية الرأسمالية المنبثقة عن وجهة نظرهم وقاعدتهم الأساسية في التفكير، وقد تبعهم في ذلك واقتدى بهم فيه جلّ من كتب في الاقتصاد من المسلمين، بل عمل به كلّ من مارس الاقتصاد وتلبّس به.
وإننا نزعم أن هذه النظرة إلى المشكلة الاقتصادية نظرة باطلة عقلا وشرعا. وأوجه البطلان فيها نقف عليها من خلال ما يلي من تفصيل:
مناقشة فكرية
يرى الرأسماليون أن أصل وجود المشكلة الاقتصادية ناتج عن محاولة الفرد أو المجتمع إشباع حاجاته غير المحدودة، ويعنون بذلك أن ميول الإنسان ورغباته في التكاثر والتنويع في الاستهلاك مع تطور حضارة المجتمع الذي يعيش فيه وتقدم مدنيته غير محدّدة بسقف إشباع معيّن لا يمكن تجاوزه، مما يجعل تلك الحاجات والرغبات تصطدم مع واقع ندرة الموارد الطبيعية والمنتجة.
وهذا الرأي الرأسمالي أي القول إن الحاجات عند الإنسان متجددة ومتعددة فهي غير محدودة، بينما وسائل الإشباع من سلع وخدمات مهما كثرت فهي محدودة، باطل؛ لأنّ المشاهد المحسوس أن الحاجات عند الإنسان تنقسم إلى قسمين: الحاجات الأساسية، والحاجات الكمالية. فحاجات الإنسان الأساسية ثابتة لا تتغير، ولا تزيد ولا تنقص حسب المجتمعات وحسب درجة رقيها وانحطاطها المدني. وهذه الحاجات الأساسية هي التي تتطلب الإشباع الحتمي أي الإشباع الضامن للبقاء، وهي محدودة بل تكاد تكون محصورة في المأكل والملبس والمسكن. فهل يشقى الإنسان إلا من أجل توفير هذه الحاجات، وهل يسعى البشر في مناكب الأرض إلا من أجل هذه الحاجات. فمهما حصل من تقدّم أو تطور في وسائل المعيشة، ومهما تجددت تلك الوسائل، فإنّ الحاجات الأساسية عند الإنسان تبقى واحدة محدودة غير قابلة للنماء والتطور والتجدّد في جوهرها، لذلك فإن إشباعها لا يولد مشكلة حقيقة، ولا يمكن اعتباره معضلة اقتصادية كما يقولون.
أما ازدياد الحاجات والرغبات نتيجة التطور الصناعي والتقدّم المدني فهو واقع لا يمكن نكرانه، إلا أنه يتعلق بالحاجات الكمالية كالسيارة وليس بالحاجات الأساسية. ومما يجب الإشارة إليه هنا، هو الفرق بين الإشباع ونوع مادته؛ فالمأكل حاجة أساسية، ونوعه لا يؤثر في محدوديته؛ لأن إشباع الحاجة قد يكون برغيف خبز وقد يكون بغير ذلك. والملبس حاجة أساسية، ونوعه لا يؤثر في طبيعة الحاجة ومحدوديته؛ لأنّ إشباعها يكون بقميص صوف مرقّع ويكون بقميص حرير.
بناء عليه، فإن الخطأ الأساسي الذي وقع فيه علماء الاقتصاد الرأسمالي ومن لفّ لفّهم يكمن في عدم التمييز بين الحاجات الأساسية والحاجات الكمالية. فالحاجات الأساسية اللازمة الإشباع محدودة، وأما الحاجات الكمالية فرغم عدم محدوديتها نسبيا إلا أنها لا تسبّب مشكلة ولا توجد معضلة؛ لأنّها ليست وسيلة البقاء بالنسبة للإنسان، ويمكن تفاوت الإشباع فيها.
هذا أمر، والأمر الآخر الدال على فساد نظرية المشكلة الاقتصادية الغربية الرأسمالية هو كذبة ما يسمى بمحدودية السلع والخدمات أي وسائل الإشباع؛ لأن المشاهد المحسوس أن هذه الوسائل كثيرة وفيرة تضيق بها المخازن وتفيض بها الأسواق. فالمصانع المنتجة للغذاء، والألبسة، والمواد الكهربائية وغير ذلك كثيرة تتنافس فيما بينها في كثرة الإنتاج وإغراق الأسواق ببضاعتها، فالمشكلة إذن ليست في ندرة السلع والخدمات كما يقولون بل المشكلة في غير ذلك؛ وهي تكمن في التوزيع العادل للثروات الموجودة المتوفرة أي توزيع وسائل الإشباع من أموال ومنافع على أفراد الأمة من أجل معالجة الحرمان الذي يصيبهم، ومن أجل إشباع حاجاتهم الأساسية ثم فتح السبل أمامهم لإشباع الحاجات الكمالية. لذلك فالمشكلة ليست مشكلة ندرة بل مشكلة توزيع.
مناقشة شرعية
إن الإنسان إذا ما أراد النظر في مسألة من المسائل فعليه أن يحّدد المنظور الذي ينطلق منه في بحث تلك المسألة، وبما أننا نؤمن بالإسلام، ونؤمن بعقيدته وشريعته، فعلينا أن ننطلق منه في بحث شتى القضايا التي تعترضنا. وإذا كان القس مالتوس أو آدم سميث أو ريكاردو يقرّرون ندرة الموارد الطبيعية، فإن الله سبحانه وتعالى خالق الكون بما فيه ومن فيه يكذّب ذلك ويقرّر عكسه، فمن يصدّق المؤمن؟
فالآيات الكريمة تصرّح بأنّ النّعم المبثوثة في هذا الكون الفسيح المسخّر لنا، هي أعظم بكثير من الرغبات والمطالب المحتملة القابلة للزيادة. فإذا كانت النّعم بشهادة الحقّ سبحانه لا تحصى، فهي غير محدودة، وإذا كانت المطالب البشرية بشهادة الحقّ سبحانه مستجابة، فأعطانا من فضله ما نسأل، فأين الندرة إذن التي يتحدث عنها القوم؟
وصدق الله العظيم القائل بعد الإنعام علينا بكل ما نسأل، {إنّ الإنسان لظلوم كفاّر}. فالمشكلة الاقتصادية سببها ظلم الإنسان، بكفرانه النعمة، وباحتكاره وطمعه وتسلّطه ورأسماليته، وبحكام ينهبون ثروات الأمم وينفقونها على الشهوات، وليس سببها الندرة.