ظهر دون سابق إنذار. أربك الدول الكبرى قبل الصغرى. دراسات عديدة وآراء مختلفة لم تصل إلى معرفة هويته بالكامل. هذا يهون وذاك يهول. تقول الإحصائيات التي قدمتها منظمة الصحة العالمية بأن ضحاياه تخطى عددهم المليون والمصابون تجاوزوا عتبة 40 مليون. مئات الآلاف في العالم اجبروا على الالتحاق بصفوف العاطلين عن العمل، وهناك تقديرات تشير إلى فقدان 165 ألف شخص لوظائفهم في تونس بسبب الموجة الأولى لفيروس كورونة والرقم مرشح إلى الارتفاع خلال الموجة الثانية والتي تجابهها الدولة الآن بإجراءات تختلف إلى حد ما عن تلك التي اتخذتها أثناء الموجة الأولى لفيروس كوفيد 19.
ومن أهم الإجراءات التي اتخذتها الدولة أثناء عودة الفيروس للانتشار فرض حظر التجول الليلي في عدة ولايات مع منع صلاة الجمعة وإقرار العمل بنظام الحصة الواحدة والتقليص من ساعات العمل, كما تم منع انتصاب الأسواق الأسبوعية وإجبار المقاهي والمطاعم على رفع الكراسي ثم تم التراجع عن هذا القرار واستبداله باستغلال 30 بالمائة من طاقة استيعاب المقهى أو المطعم وقد وقع استثناء الحانات من هذا الإجراء. هذه هي وبصفة عامة الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمجابهة فيروس كورونا إلى حد الآن وحسنا فعلت حين لا زمت الصمت هذه المرة وأراحتنا من نشازها المتمثل في العزف على وتر مساعدة الفئات الهشة والمعوزين وكل من يعاني الفاقة, كما أراحت المسنين والعجزة من الوقوف لساعات طويلة أمام المعتمديات ومكاتب البريد طمعا في الحصول على منحة وعدتهم بها الدولة بسبب الجائحة ولم ينالوا غير الإرهاق وإراقة ماء الوجه على أبواب مكاتب المسؤولين وأمام عدسات وميكرفونات وسائل الإعلام.
احتجبت الطوابير واختفى التدافع وعاد المحتاجون والعاطلون عن العمل والمرضى غير القادرين على توفير الدواء لأمراضهم المزمنة التي يفوق عمرها عمر جائحة كورونا بعشرات السنين وعاد معهم الذين يعيشون منذ عقود تحت وطأة العطش ولم توفر لهم الدولة يوما قطرة ماء تختلف عن ذلك الماء الذي يتقاسمون شربه مع الدواب والحيوانات البرية وربما كرهته وتجنبته وشربه أناس لم تعاملهم الدولة بوصفهم بشر. عاد أولئك الذين يحلمون بقضاء ولو ليلة واحدة تحت سقف وأربع جدران تقيهم لسعات البرد ولهيب الشمس, ولم تفكر الدولة ولو مجرد التفكير في أن توفر لهم مساكن تأويهم كما تأوي باقي البشر. كل هؤلاء عادوا أدراجهم حيث اعتادت الدولة أن يكونوا, فهي هذه المرة لم تعلن عن منح أو مساعدات تجعلهم يغادرون مواقعهم فهي الآن منشغلة بمحاربة جائحة كورونا والتي بفضلها تذكرتهم الدولة مع الإطلالة الأولى لهذا الوباء وللسبب نفسه تشيح عنهم بوجهها وتدير لهم ظهرها, إذ لا تجد اليوم الوقت ولا الإمكانيات لتحسن عيشهم وتمنحهم بعضا من الحياة الكريمة. لقد أجلت المؤجل وعطلت المعطل وغيبت ما هو غائب منذ حصولها على الاستقلال المزعوم بتعلة أن فيروس كوفيد 19 أخذ منها كل طاقاتها ولولاه لحولت الجحيم الذي رمانا فيه نظامها الوضعي إلى نعيم مقيم. ولم يقتصر الأمر على المآسي المستجدة والتي تتفاقم كل يوم بل كل ساعة في ظل هذه الدولة بل علقت كل آثامها السابقة على شماعة وباء كوفيد 19 المستجد. المستشفيات اليوم ترزح تحت نير انعدام التجهيزات والأدوية والإطارات الطبية وشبه الطبية وباختصار هي تشبه إلى حد كبير الإسطبلات المهجورة، والحقيقة أنها على هذا الحال منذ عقود لكنهم اتهموا زورا وكذبا الكورونا التي فاجأتهم وتحدت جودة ما تقدمه الدولة من خدمات صحية للناس واستدلوا على صدق اتهامهم لهذا الفيروس بما حصل في بلدان كإيطاليا وفرنسا واسبانيا بل حتى في الولايات المتحدة التي عجزت مستشفياتها عن استيعاب كل مرضى الكورونا، وبالطبع الأمر لا يستحق التوضيح فالمقارنة لا تستقيم البتة والبون شاسع بين قطاع صحتهم وصحتنا ولا يحتاج لتوضيح. فكلنا يتذكر فاجعة قسم الولدان بمستشفى “وسيلة برقيبة” بسبب غياب العناية اللازمة في غرف الإنعاش مما أدى إلى هلاك 11 رضيعا دفعة واحدة ومع حلول جائحة كورونا تفاقمت الأزمة بل الأصح تعرت بالكامل فعدد أسرة الإنعاش لا يتعدى 95 سريرا بالمستشفيات العمومية و100 سرير بالمصحات الخاصة, أرقام أقل ما يقال عنها أنها دليل على أن هذه الدولة دولة تهميش بامتياز ولا تقيم لرعاياها, وزنا وما صرح به مؤخرا وزير الصحة يؤكد على أنها فعلا دولة العبث والاستهتار, حيث أعلن على عزم الدولة الترفيع في أسرة الإنعاش من 95 سريرا في القطاع العمومي إلى 220 سريرا وفي القطاع الخاص من 100 إلى 200 وكأننا في بلد تعداد سكانه بالعشرات, وحتى وإن كنا كذلك فطبيب الإنعاش يجب أن تكون مدة تكوينه لا تقل عن 10 سنوات, فعند زيادة أسرة الإنعاش يجب أن يكون هناك إطار طبي وشبه طبي له مؤهلات خاصة وهذا غير متوفر حاليا فالممرض الذي يعمل في قسم الأمراض الصدرية مثلا لا يمكنه أن يعمل في قسم الإنعاش لأن هذا القسم لديه خصوصية ويتطلب تكوينا في الإنعاش وهو ما ينسحب أيضا على أطباء الإنعاش وهذا ما أهملته الدولة فإلى جانب إهمالها للتكوين والرسكلة أجبرت العديد من أصحاب الاختصاص على الهجرة والفرار من الوضع البائس الذي فرضته عليهم.
وبما أن جائحة كورونا جائحة غزت العالم بأسره ولا يمكن لأحد مجادلة الدولة في هذا الأمر وسعت من دائرة تحججها بها وتعليق فشلها القديم والجديد على شماعة كورونا فمثلا هي أهملت مع سابقية القصد والترصد قطاعا استراتيجيا وهو قطاع الفلاحة فمنذ عقود والدولة بسياستها الرعناء تعرض الأمن الغذائي للخطر وحسبنا الاستدلال بجريمة الإلقاء بأطنان القمح في العرى ومن بعده محصول الزيتون والتمور وغيرها من المواد التي وضعتها الدولة زمن الوفرة في قبضة التلف لتضمن لأرباب المال والنفوذ فرص التوريد وتعمق من جراح الفلاح والمستهلك على حد السواء, وها هي اليوم تواصل السير في نفس الاتجاه فقطاع المواشي مهدد بالفناء بسبب وباء فتاك يعرف بمرض “اللسان الأزرق” الذي تفشى بشكل مفزع في قطعان الأغنام والأبقار والسبب إحجام الدولة على توفير اللقاح الواقي من هذا الوباء والذريعة التي تقدمها الدولة هو انشغالها بمجابهة فيروس كورونا والحال أنها امتنعت عن توفير اللقاح الذي يضمن سلامة المواشي منذ سنة 2018 وبهذا تكون قد وفقت في سياستها التدميرية لقطاع الفلاحة وتهديد أمننا الغذائي علما أنها لم توفر إلى حد الآن البذور والأسمدة وتسببت في تأخير انطلاق موسم الزراعات الكبرى, تفعَل كلّ هذا ولسان حالها يشكر ويثني على فيروس كورونا الذي حولته إلى كثيب رملي تدس فيها عجزها وفشلها, بل وخياناتها المتواصلة.