لا تخجل بعض الأوساط السياسية بمختلف مشاربها الفكرية والسياسية، إسلامية معتدلة أم علمانية، وطنية أم قومية، ليبرالية أم اشتراكية… بأن تتجرأ على الادعاء بأن اتخاذ الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية أساسا لتنظيم الحياة من شأنه تقسيم الشعب وإحداث فتنة بين الناس، وبالتالي وجب صرف النظر عن بحث مسألة الهوية وهذه الأوساط بجرأتها على دين الله سبحانه وتعالى قد نصبت نفسها، على قلة عديدها وانعزالها عن أمتها، معبرة عن شعب مسلم عريق في إيمانه، متشبث بأحكام دينه، وإن وقع تضليله عن كثير من هذه الأحكام تحت سلطان فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان.
ولا تخجل تلك الأوساط نفسها، من ادعاء أن الأفكار العلمانية والتشريعات الليبرالية المفروضة على الناس بحكم قوة القانون وجبروت السلطان، هي الصالحة للناس رغم النتائج الكارثية التي لا تخفى عن الأبصار، يشقى الناس تحت وطأة تطبيق هذه الأفكار والتشريعات عليهم لأكثر من قرن من الزمان والإصرار على الدعوة إليها، في تثبيت للهيمنة الاستعمارية وإيغال في صرف أذهان الناس عن الحلول الصحيحة المجزية في فضل شريعة الرحمن.
ولإضافة صفة الجحود على نفسها لا تخجل، هذه الأوساط، حين تساوي بين احتلال فرنسا لبلادنا، في معرض مناقشة اللائحة التي قدمت إلى مجلس ” نواب الشعب ” لتبني طلب اعتذار من فرنسا عن جرائمها المقترفة في حق أهل تونس فترة احتلالها، لها وبين إنجاد الدولة العثمانية لتونس وإنقاذ أهلها من إذلال الإسبان لهم وطغيانهم عليهم والذي امتد لتسعة وثلاثين عاما وتخلصهم من عار البقاء تحت سلطان الكفر والكافرين واعتبار ذلك منها احتلالا. لقد جحدوا فضل الدولة العثمانية، الدولة الإسلامية التي وقع عليها يومها فرض القيام بذلك الواجب، فرئيسها هو الذي انعقدت له رئاسة دولة الإسلام بالبيعة الشرعية من أهل الحل والعقد، فبايعته الأمة بيعة الطاعة. قامت الدولة العثمانية بدحر الغزاة ورد عدوانهم عن المسلمين ولم تعد ذلك فضلا منها، بل هو حكم شرعي في رقبة الخليفة فأداه. ولكن الهزيمة الفكرية والحضارية، والعبودية السياسية التي تسربل بها بعض من أبناء أمتنا تودي بالجاهل موارد الهلاك فيجبن عن مواجهة العدو فيسترضيه بالعقوق.
أما محاولة إنكار كون الدولة العثمانية دولة إسلامية وأنها دولة للأتراك، لا يغير من حقيقتها، فقد امتلأت جنبات التاريخ بمآثرها وهي التي حملت لواء الإسلام حين أسقط حمله الآخرون، وهي التي حملت رسالته، بالدعوة والجهاد، حين تنكب الآخرون ذلك الفضل، تنشر الهدى والنور بين الورى، على هدي دولة الإسلام الأولى والتي تحول مركز سلطتها إلى مدينة الفاتح اسطنبول. وما ذلك إلا للتدليل على أن ليس للإسلام دولة ولم يفرض الله على المسلمين إقامتها، تبريرا منهم لدفاعهم عن النموذج الغربي للحكم.
فالدولة التي أوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين إقامتها، ليست على نمط الدولة العثمانية ولا على غيرها من الدول، بل تقوم على أساس الأصول الشرعية فهي الدولة التي لا يتأتى وجود شئ في كيانها أو جهازها أو محاسبتها أو كل ما يتعلق بها، إلا بجعل العقيدة الإسلامية أساسا له وهي في الوقت نفسه أساس الدستور والقوانين الشرعية بحيث لا يسمح بوجود شئ مما له علاقة بأي منهما إلا إذا كان منبثقا عن العقيدة الإسلامية. وهي الدولة التي يقوم نظام الحكم فيها على أربع قواعد هي:
1 ــ السيادة للشرع لا للشعب
2 ــ السلطان للأمة
3 ــ نصب خليفة واحد فرض على المسلمين
4 ــ للخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية فهو الذي يسن الدستور وسائر القوانين
ابتليت الأمة في هذه الفترة من حياتها، بل منذ أن أسقط الكافر المستعمر دولتها وبسط عليها سلطانه، بعقوق البعض من أبنائها الذين انضبعوا بثقافة الأعداء، فصاروا يستنكفون من الانتماء إليها والاعتزاز بتاريخها وأمجادها بل صاروا يتسقطون بعض الهنات العابرة في حياة الكرام ليبرزوها ويجعلون منها” علامات دالة عليها “، وصار الافتراء على دولتها خاصة الفترة العثمانية منها، اقتداء بأعدائها، ودعامة لهجومهم عليها، حتى صار الانطباع عن الدولة الإسلامية، تعميماً مخلاً لما تركته آخر أيامها من انطباعات في ذهنية الأجيال المعاصرة، بادعاء أن “العرب المسلمين ظلوا طوال أربع مئة سنة أمة مستضعفة تحت نير الأتراك، وأن البلدان العربية نُهبت خيراتها وخيم عليها الفقر من جراء الاحتلال التركي”. لقد صار التصاق هؤلاء بكل ما يمت بصلة إلى شخصية الكافر المستعمر والتشبه برموزها من ساسة ومفكرين، والتحلي بثقافتها، سمة لهم وعنوان تميزهم عن الأمة واستعلاء على أبنائها المخلصين لها.
روى أبو ذر رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار”. فإذا كان انتساب المسلم إلى مسلمين من غير قومه موجب لتبوئه مقعدا من النار. فأي إثم، وما عظم جرم من عق أمته وانحاز إلى أعدائها ينصرهم عليها؟ فثبت فكرهم ووجهة نظرهم فيها وإن ادعى أنه يعمل لخيرها. ألم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى عمر بن الخطاب يحمل صحيفة من التوراة، فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي.
“هذه هي أمّة الإسلام لا يمكن أن تكون أمّة مهمّشة تقاد وتباد إلّا إذا فرّطت في مبعث عزّها وموطن قوّتها “دينها” فإن هي فعلت ذلك فإنّ أبناءها سيكونون لا محالة أيتاما على موائد اللّئام، دماؤهم مسفوكة وأراضيهم مسلوبة وثرواتهم منهوبة وأعراضهم منتهكة…”
هذه أمتنا الشاهدة على الأمم حاملة الخير إلى العالم، وهذه دولتنا مبعث عزنا وتاج فروضنا، فرض عظيم فرضه علينا ربنا، ونهانا أن نتحاكم إلى غيره من أنظمة الكفر التي ما أنزل الله بها من سلطان.