رأي الإمام يرفع الخلاف
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
قال قائل: “إن تجميع المسلمين في كيان سياسي واحد يحكم بشرع الله تعالى أمر غير واقعي في هذا الزمان وذلك للأسباب التالية:
-
كان الرسول عليه الصلاة والسلام مرجعية للمسلمين في حياته الشريفة فهو المتحدث الوحيد باسم الإسلام. أما اليوم فان الاجتهادات في المسألة الواحدة قد تعددت حدّ التناقض، فشمل هذا الأمر الأصول والفروع على حدّ سواء حتى أنك تكاد لا تجد مسألة لا خلاف عليها .نعم، هذا من عوامل إثراء الساحة الفكرية ولكن في نفس الوقت قد يكون سببا في الفرقة وخصوصا انعدام إمكانية الإجماع على ما يجمع المسلمين .فكيف يمكن تحقيق إجماع على رأي واحد مع إقرارنا أن هذا الرأي ليس بالرأي الإسلامي الوحيد في المسألة، وهنا أتحدث فقط عن القضايا الضرورية في تكوين مجتمع مسلم في كيان سياسي واحد. فكيف لنا مثلا أن نقنع المسلمين بالوحدة في المقابل نجد أن هناك فقهاء يفتون بمشروعية تعدد الأوطان وأن حبّ الأوطان من الإيمان، ومنهم من يفتي بضد فكرة توحيد يوم الصيام والعيد.
-
هناك أناس يرون رأيهم هو رأي الإسلام الوحيد وأي خروج عن هذا الرأي يعدّ خروجا عن الإسلام. ولذلك تجدهم يتعبدون الله بمحاربة ومعاداة من يخالفهم الرأي. والسؤال كيف لنا أن نحافظ على تماسك الوحدة الكيانية للمسلمين في المستقبل إن شاء الله إزاء تلك الأفهام؟
والجواب: يشتمل هذا السؤال المهم على جملة من المسائل لا يسعنا في هذا المقام الإلمام بها كلّها، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه؛ لذلك سنحاول هنا قدر الإمكان التطرّق للمسائل المهمّة المتعلقة بجوهر السؤال:
أولا: تعدّد الاجتهاد في المسألة الواحدة ليس من محدثات هذا الزمن، فقد حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم في زمن النبوة وبعدها. ومثال ذلك: أخرج البخاري عن ابن عمر قال: ” قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ”. وفي رواية مسلم: “نَادَى فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الْأَحْزَابِ «أَنْ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ”. وأما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد استقل جمع من الصحابة بالاجتهاد، فتعددت اجتهاداتهم واختلفت ولم ينكر أحد منهم على الآخر، بل إنّ من الصحابة من كان يفتي في المسألة الواحدة بآراء مختلفة، كما أخرج البيهقي في الكبرى عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال: “إنِّى لأحفَظُ عن عُمَرَ في الجَدِّ مِائَةَ قَضيَّةٍ، كُلُّها يَنقُضُ بَعضُها بَعضًا”.
وعليه، فالاختلاف وتعدّد الآراء والأفهام مما عرفه الصحابة وورثته الأمة عنهم. ولكن علينا أن لا ننسى هنا، أنّ الاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم كان في الفروع دون الأصول، وفي الفهم دون الأدلة، ولم يكن له أيّ أثر سلبي على الأمة بل كان رحمة لها؛ لأنّها تعلمّت منهم طريقة الاجتهاد العملية وكيفية الاستنباط.
ثانيا: في زمننا هذا نجد اجتهادات كثيرة، منها ما تعلّق بالأصول ومنها ما تعلّق بالفروع، ومنها ما تعلّق بالفهم ومنها ما تعلّق بالدليل، ومنها المعتبر ومنها غير المعتبر، ومنها المحمود ومنها المذموم. ولكي لا نطيل البحث في هذه المسألة نقول: هذا هو واقع الأمة، وواقع الحال، فكيف يتعامل المسلمون مع هذا الاختلاف وبخاصة الاختلاف في الأصول؟
والجواب هو: قال الشيخ الطاهر بن عاشور (في أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص172): “وفيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة من الاعتقادات فالمسلم مخيّر في اعتقاد ما شاء منه إلا أنه في مراتب الصواب والخطأ. فللمسلم أن يكون سنيا سلفيا، أو أشعريا أو ماتريديا، وأن يكون معتزليا أو خارجيا أو زيديا أو إماميا. وقواعد العلوم وصحة المناظرة تميّز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطأ، أو الحق والباطل. ولا نكفر أحدا من أهل القبلة”.
ثالثا: يجب أن نميّز بين رأي الإسلام وبين الرأي الإسلامي. فرأي الإسلام هو الرأي الذي لا يقبل التعدّد ولا يحتمل النقيض، أي هو الرأي المبني على دليل ثابت قطعي الدّلالة. وأما الرأي الإسلامي فهو الرأي المبني على اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ. فالعبرة في الحكم بأنّ الرأي رأي إسلامي ليست بالصواب والخطأ، إنما العبرة بصحة الاجتهاد أي أنّ الرأي المستنبط تمّ الوصول إليه وفق منهجية اجتهادية سليمة. وعليه، فكل رأي تحتمله الأدلة ويستند إلى أمارة شرعية وتمّ التوصل إليه وفق منهجية مقبولة لك أن تعتبره من الآراء الإسلامية بغض النظر عن صوابه أو عدم صوابه. ومثال ذلك، القول بطهارة سؤر الكلب أو القول بنجاسته من الآراء الإسلامية، والقول بقتل المرتدة وبعدم قتلها من الآراء الإسلامية، والقول بجواز الموسيقى وبعدم جوازها من الآراء الإسلامية، والقول بتفويض معاني الصفات أو تأويلها من الآراء الإسلامية، والقول بجواز كراء الأرض بالذهب والفضة وبعدم جواز ذلك من الآراء الإسلامية، والقول بوحدة المطالع أو بتعددها من الآراء الإسلامية؛ فكل رأي يحتمل النظر ويستند إلى دليل أو أمارة شرعية يقبل كرأي إسلامي.
وأما الرأي غير الإسلامي فهو الرأي الذي لا تحتمله الأدلة، وقيل به اعتمادا على منهجية اجتهادية خاطئة. ومثال ذلك قول من قال حبّ الوطن من الإيمان:
– إن أريد بهذا القول مجرّد إثبات ميل الناس لأوطانها والحنين إليها، باعتبار ورود ذلك في حديث: “حبّ الوطن من الإيمان”، فلا إشكال في هذا الأمر رغم أنّ الحديث موضوع. قال في كشف الخفاء: “قال الصغاني: موضوع، وقال في المقاصد: لم أقف عليه، ومعناه صحيح، وردّ القاري قوله ومعناه صحيح بأنه عجيب…”.
– أمّا إن أريد بهذا القول تثبيت تقسيم سايكس – بيكو، وتثبيت تشتت الأمة وتفرّقها، فلا عبرة بهذا القول المخالف لصريح الأدلة القطعية الداعية إلى وحدة الأمة الإسلامية. وكيف يستقيم الاستدلال بهذا الحديث الموضوع، وكيف يقال إنّ هذا الرأي إسلامي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قبله فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر” (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو)، ويقول: “إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما” (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري)، ويقول: “أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه” (رواه النسائي عن أسامة بن شريك)، ويقول: “فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان” (رواه مسلم عن عرفجة). ومفهوم هذه الأحاديث منع تجزئة الدولة، والحث على عدم السماح بتقسيمها، ومنع الانفصال عنها ولو بقوة السيف. وهذا يعني أن الأدلة الشرعية الصريحة جاءت بتحريم جعل الدولة دولا، وبتحريم تفرق الأمة وتشتتها، وأنها يجب أن تكون أمّة واحدة في دولة واحدة.
رابعا: القول بأنّ تجميع المسلمين في كيان سياسي واحد يحكم بشرع الله تعالى أمر غير واقعي في هذا الزمان لتعدد الاجتهادات حدّ التناقض، غير دقيق؛ لأنّ العكس هو الصحيح. فتجميع المسلمين في كيان سياسي واحد هو الذي يرفع اختلافهم ويضيّق دائرته. فإذا أقيمت دولة الإسلام بإذن الله تعالى، فإنّ الخليفة يتبنى مجموعة من الأحكام الشرعية يسنّها دستورا وقوانين تعمل بها الأمة بأكملها. ذلك أن الخليفة إذا تبنى حكما شرعيا، صار هذا الحكم الذي تبناه هو الحكم الشرعي الواجب العمل به، وأصبح قانونا نافذا يطيعه كل فرد من أفراد الرعية ظاهرا وباطنا. ولهذا نجد في الفقه الإسلامي قواعد قعّدها العلماء تتعلّق بهذا الأمر منها: “للسلطان أن يحدث من الأقضية بقدر ما يحدث من مشكلات”، و”أمر الإمام يرفع الخلاف”، و”أمر الإمام نافذ” و”حكم الحاكم يرفع الخلاف”. والدليل على هذا إجماع الصحابة. فقد تبنى الخلفاء الراشدون أحكاما معينة وأمروا بالعمل بها، فالتزم المسلمون ومنهم جميع الصحابة بذلك؛ فقد تبنى أبو بكر الصديق إيقاع الطلاق الثلاث واحدة، وتوزيع المال على المسلمين بالتساوي، فاتبعه المسلمون في هذا وسار عليه القضاة والولاة، ولما تولى عمر الفاروق الخلافة تبنى رأيا في هاتين الحادثتين خلاف رأي أبى بكر، فألزم وقوع الطلاق الثلاث ثلاثا، ووزع المال بالتفاضل، فاتبعه في ذلك المسلمون، وحكم به القضاة والولاة. وهكذا سار جميع الخلفاء الراشدين على تبني الأحكام، وعلى إلزام الناس بترك اجتهادهم والالتزام بما تبناه الخليفة.
ولسائل أن يسأل: هل معنى هذا أن الخليفة يتبنى في كلّ شيء، فيتبنى في العقائد والعبادات والمعاملات والعقوبات وغير ذلك ويلزم الناس برأيه في كل شيء؟