رئاسيّة 2019 في دورتها الأولى: أرقام ودلالات ورسائل
حدّث أبو ذرّ التونسي قال: عشيّة الثلاثاء 17 سبتمبر 2019 وضعت الدّورة الأولى من الانتخابات الرّئاسية أوزارها مسفرة عن تأهّل مترشِّحين للدّور الثاني هما المرشّح المستقل أستاذ القانون الدّستوري الدّكتور قيس سعيّد ومرشّح حزب (قلب تونس) صاحب قناة نسمة نبيل القروي الموقوف بقضيّة تبييض أموال وتهرّب ضريبي… هذا الزّلزال الانتخابي قلب قواعد اللّعبة السياسيّة رأسًا على عقب وهتك ستر الوسط السياسي وفضح هشاشته وهدّد المنظومة الحاكمة ومسارها الدّيمقراطي في الصّميم…كما كشف بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الشعب التونسي متسيّس حدّ النّخاع ولكنّه غير متحزّب، وأنّه يحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحد ولكنّه يكره الدّولة، وأنّه يمرّ بحالة من الإحباط والقرف السياسي الحادّ والمزمن دفعت به إلى أحضان الدّكتور قيس سعيّد الدّافئة ومائدة نبيل القروي الطافحة بما لذّ وطاب..
نتائج منتظرة
وبصرف النّظر عن حملة التهجّم على الشّعب والتشكيك في إرادته التي انخرط فيها (شهداء وجرحى الانتخابات) والتي بلغت حدّ اتّهامه بالقصور والجهل وعدم الأهليّة ـ صراحةً أو كناية ـ فإنّ صعود نجم هذين العصفورين النّادرين يفتقد عند متتبّعي الشأن السياسي لعنصر المفاجأة: فكلّ نوايا التّصويت واستطلاعات الرّأي التي سبقت الانتخابات وضعتهما على رأس الفائزين المحتملين… إلاّ أنّ المنظومة الحاكمة لم تحمل الدّكتور قيس سعيّد على محمل الجدّ وتوجّست خيفة من الشّباب الثّوري ومن نبيل القروي فرنسيّ الهوى الذي وظّف قناته وجمعيّته الخيريّة (خليل تونس) لحملته الانتخابيّة المبكّرة منذ 2016… فكان مشروع تعديل القانون الانتخابي الذي لم ير النّور، ثمّ كانت الحركة البلطجيّة المتمثّلة في اعتقال المترشّح نبيل القروي وسجنه بتهم فساد وتبيض أموال في خطأ فظيع وقاتل لم يزد صاحب قناة نسمة إلاّ شعبيّة والتفافًا جماهيريًّا ولم يزد يوسف الشّاهد إلاّ تآكُلاً في مخزونه الانتخابي.. وبعيدًا عن الإغراق في التّحاليل السياسيّة الظنيّة سنحاول فيما يلي أن نركب المنهج الإحصائي مطيّةً لاستنطاق نتائج الدّورة الأولى لرئاسيّة 2019 وأن نتجاوز بأرقامها ونسبها مجرّد الترتيب التّفاضلي للمترشّحين إلى مصافّ البحوث (النّفسا اجتما سياسيّة) للإفصاح عن رؤى النّاخبين ونواياهم وانتظاراتهم ومواقفهم ودوافعهم الظّاهرة والخفيّة…
نسبة المشاركة
أوّل رقم نتولّى استنطاقه هو نسبة المشاركة وهي أساسيّة في إضفاء المصداقيّة على الفعل الانتخابي في المنظومة الدّيمقراطية: فمن جملة 7 ملايين و74 ألفًا و566 ناخبًا مسجّلاً (قسْرًا) أدلى 3 ملايين و465 ألفًا و184 ناخبًا بأصواتهم في هذا الاستحقاق الانتخابي بنسبة مشاركة ناهزت زهاء 49% …وممّا يُلاحظ في هذا الصّدد أنّ نسب المشاركة في الانتخابات بعد الثّورة قد شهدت عدّة تجاذبات صعودًا ونزولاً من محطّة انتخابيّة إلى أخرى: فقد انطلقت خجولةً متردّدة في تأسيسيّة 2011 بالنّظر إلى الحالة الثّورية المفتوحة على المجهول وانكماش شرائح التجمّع المنحلّ فلم تتجاوز النّسبة (52 % )…ثمّ بلغت ذروتها في انتخابات 2014 حيث انخدع الشّعب بالوعود الكاذبة والأوهام المنسوجة حول الدّستور الجديد وانخرط في العمليّة الانتخابيّة يحدوه الأمل في تغيير واقعه بما نفخ في نسبة المشاركة (التشريعيّة: 69% ـ الرّئاسية 64.5% )… ثمّ وبعد أن تبيّن له أن هذه الطّبقة السياسيّة مفلسة وفاشلة وكاذبة ومرتهنة، واكتوى بنار التّفقير والتّهميش والخصاصة والتّدهور الاقتصادي والاجتماعي، وحُورب في عقيدته وهويّته وانتمائه، أشاح بوجهه عنها وقابلها بردّ فعل سلبي ويائس تمثّل في العزوف عن الحياة السياسيّة في أبرز مظاهرها: الانتخابات… فكانت انتكاسة بلديّات 2018 حيث انحسرت نسبة المشاركة إلى (35.6% )، وقد تواصل العزوف مع رئاسيّة 2019 وتجاوز نصف المسجّلين (51% ) بما مجموعه 3 ملايين و609 آلاف و382 مقاطعًا للانتخابات…
مغالطة
غير أنّ نسبة المشاركة البالغة (49%) هي نسبة مضلّلة لا تعكس حقيقة إقبال الشّعب وتختزل في ذاتها مغالطةً رقميّة: فمن بين العشر مرشّحين الأوائل نجد ستّة بين مستقلّين وثوريّين بمن فيهم المتأهّلين للدّور الثاني (قيس سعيّد ـ نبيل القروي ـ لطفي المرايحي ـ الصّافي سعيد ـ سيف الدّين مخلوف ـ محمّد عبّو) وقد جمع هذا السّداسي لوحده نسبة 55.7% من الأصوات أي ما يعادل مليونًا و 877 ألفًا وسبعة أصوات وهو رقم مهول يتجاوز نصف الناخبين… ومعلوم أن المستقلّين والثوريّين قد ضخّموا نسبة المشاركة لأنّهم إمّا شخصيّات عذراء لم تتلوّث بدنس الممارسة السياسيّة أو أن تجربتهم السياسيّة لم تكن كارثيّة بما مكّنهم من بعض المصداقيّة، هذا إلى جانب الشعارات البرّاقة المغرية التي يرفعونها… وبالتالي فقد كانوا بمثابة الطّعم البشري والرّشوة السياسيّة لجلب النّاخبين والنّفخ في حجم المشاركة وتضخيم نسبتها المائويّة… بحيث أنّ أكثر من نصف الناخبين ما كان لهم أن يشاركوا في رئاسيّة 2019 ـ كلّهم أو جلّهم ـ لولا هذه الأسماء السحريّة المستقلّة الثوريّة، ممّا كان سينحدر بنسبة المشاركة إلى الحضيض (زهاء 23%)…
تصويت عقابي
ثاني الأرقام التي نعتزم استنطاقها هي النّسبة المائويّة للمترشّحَين المتأهّلين للدّور الثاني والبالغة (18.4%) للدكتور قيس سعيّد و (15.6%) لنبيل القروي…فمن المعلوم أنّ تركيبة المترشّحين موزّعة على أربع عائلات سياسيّة كبرى (المنظومة أو السيستام ـ الإسلاميّين ـ اليساريّين ـ الثّوريّين): ومن الطّبيعي والمنطقي والجاري به العمل رفي أعرق الديمقراطيّات أنّ المنظومة الحاكمة هي التي تشغل المراتب الأولى في الانتخابات وتتحوّز على أكثر الأصوات وتمثّل العمود الفقري لطاقم الحكم، فيما تراوح البقيّة بين الدّيكور الدّيمقراطي والشّريك الشكلي والحليف الاضطراري…إلاّ أنّه ما راعنا في رئاسيّة 2019 إلاّ والناخب التونسي يُغيّب المنظومة ويصوّت لفائدة المستقلّين والثوريّين ويخصّهم بأكثر من نصف الأصوات ويؤهّل اثنين منهم إلى الدور الثاني في شبه تصويت عقابي للسلطة و للحزب الحاكم وللمنظومة بكاملها لاسيما المعارضة المنافقة التي تنكّبت عن دورها…فالصندوق لفظ طبقة سياسيّة كاملة ـ حكومة ومعارضة وموالاة ـ في شبه انتفاضة انتخابيّة ضد الطبقة السياسيّة والأحزاب التي أفرزتها يمينًا ويسارًا ووسطًا…لقد وقع بكلّ بساطة القفز على الوسط السياسي برمّته والثورة على الماكنة الحزبيّة القديمة وعلى تقاليد العمل السياسي الحزبي البالية: فالطرح الثوري غازل الشباب الذين سئموا من الوعود الزّائفة والبرامج الوهميّة الخالية من النّجاعة والمصداقيّة وعبّأهم لإقصاء منظومة الحكم واختيار مرشّح من خارج التّركيبة الحزبيّة…إنّها صرخة مدوّية من الشباب والطّلبة ومعظم شرائح الشعب التونسي في وجه الساسة والأحزاب ومنظومة السيستام بسبب فشلها في تحسين ظروف العيش والقضاء على مظاهر الفساد والمحسوبيّة المتفشّية وتعمّدها إغراق البلاد في مستنقع العمالة والتبعيّة والارتهان والتفقير…
أمّا اهمّ رسالة تكمن طيّ هذه الصّرخة، فهي أن سيستام الاستعمار ليس منيعًا بل يمكن إعطابه وتعطيله واختراقه وتجاوزه إذا تعلّقت الهمّة والإرادة ووُجد الرّأي العام ويبقى النّجاح مرهونًا في النّصرة.. والكرة عند حزب التحرير…
العصفور النّادر
بِمَ طالب الشعب التّونسي المسلم المحافظ اللاّهث خلف لقمة العيش بتصويته لفائدة قيس سعيّد ونبيل القروي..؟؟ ماذا تراه يطلب من صاحب جمعيّة خيريّة أضاءت النقاط المظلمة وتذكّرت المناطق المنسيّة وأدخلت البهجة على المحرومين..؟؟ وماذا تراه ينتظر من شخصيّة أصيلة مستقيمة زاهدة متواضعة محافظة نظيفة..؟؟ إنّه يطلب بكلّ بساطة حقّه في رعاية الشّؤون التي استقالت عنها حكومات ما بعد الثورة بالكليّة ورهنته في قوته ولقمة عيشه للبنوك والشركات الأجنبيّة…ويطلب العودة إلى حضن هويّته وعقيدته وحضارته بعد أن اعتراه إحساس بالغربة الوجوديّة كرّسته طبقة سياسيّة وثقافيّة هجينة تكنّ عداء هستيريّا لكلّ ما يمتّ للإسلام بصلة وتشنّ حربا لا هوادة فيها على الكتاتيب القرآنيّة وتستميت في الدّعوة إلى الجندريّة وفصل العفّة عن الجسد ونسخ شرائع الله… ولئن كان انتخاب القروي اعترافا بالجميل من سكّان الدّواخل والأرياف ،فإنّ اكتساح الدكتور قيس سعيّد للانتخابات مردّه قوّة شخصيّته والكاريزما التي يتمتّع بها بوصفه شخصا مستقيما نظيفا زاهدا في السلطة وفيّا للثورة ومنحازا للشعب…قربه من النّاس وتواضعه وأمانته وخطابه المحافظ الواضح الباتّ لاسيّما في المساواة في الميراث والمثليّة واتفاقيّة الأليكا وتجريم التطبيع وإلغاء عقوبة الإعدام أكسبته ثقة النّاخبين ،هذا فضلا عن اعتزامه تعديل الدستور وتكريس(الديمقراطيّة المجالسيّة) وإشراك القاعدة الشعبيّة في صنع القرار… كما أنّ بساطة حملته الانتخابيّة وخلوّها من مظاهر التبذير والبهرجة ورفضه تمويلها من مال الشعب جعلت منه العصفور النّادر للنّاخب التونسيّ بامتياز ،فالتفّ حوله الشباب وأنجحوا له حملته على مواقع التواصل الاجتماعيّ…وفي هذا رسالة مفادها أنّ إيجاد القاعدة الشعبيّة في دائرة الممكن واليسير إذا خلُصت النيّة وصفت القلوب… والكرة مرّة أخرى عند حزب التحرير…
الإسلام السياسيّ
إنّ النِّسب التي تحصّل عليها المحسوبون على التيّار الإسلاميّ هي نسب هزيلة بل كارثيّة بالنظر خاصّة إلى موقع الإسلام من نسيج المجتمع وموقع حركة النهضة من النسيج السياسيّ والحزبي…والملاحظ أنّ نسبة التصويت لحركة النهضة قد عرفت منذ 2011 سقوطا حرّا ما فتئ يتفاقم مع كلّ محطّة انتخابيّة بما يشي بفقدانها لشعبيّتها بل لقواعدها وخزّانها الانتخابيّ…فبعد أن حصدت في تأسيسيّة 2011 ما يقارب 1.5 مليون صوت (37%) تدحرجت في تشريعيّة 2014 إلى 947 ألف صوت (27 %) ثمّ في بلديّات 2018 إلى 400 ألف صوت (12.5 %) لتصل في رئاسيّة 2019 إلى 435 ألف صوت (%12.9)بحيث أنّها خسرت فيما بين 2011 و2019 أكثر من مليون صوت…
أمّا عن الفقاقيع الأخرى المحسوبة على الإسلام فإنّ نسبها المسجّلة في هذه الرئاسيّة مخزية ومخجلة (حاتم بولبيار: 0.1 % ـ حمّادي الجبالي: 0.2 % ـ الهاشمي الحامدي: 0.8 %) فهل أنّ هذه الأرقام تعكس فعلا هزيمة الإسلام السياسيّ وسقوطه المدوّي..؟؟ بالقطع لا: فهو بالعكس مؤشّر على عزوف النّاس عن النهضة ومشتقّاتها بعد أن سقط القناع عن وجهها القبيح وفقدت ورقة التّوت التي كانت تستر عورتها وعلمانيّتها وبعدها عن الإسلام وتفضح مواقفها المخزية من تجريم التطبيع ودسترة الثروات ومن تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة وما تضمّنه من أباطيل مخالفة للمعلوم من الدّين بالضرورة… ولا أدلّ على ذلك من أنّ الإسلاميّ الثوريّ المحافظ سيف الدّين مخلوف حظي بثقة النّاخبين وتحصّل على 174 ألفا و351 صوتا (4.4 %) كما أنّ (التهم) الملصقة بقيس سعيّد (واقع تحت سيطرة السلفيّة وحزب التحرير) لم تشوّهه أو تنفّر النّاس منه بقدر ما زادته شعبيّة والتفافا من النساء والرجال… فالنّاخبون يبحثون عن المسلمين الصّادقين وينفرون من المتأسلمين ومدّعي المرجعيّة الإسلاميّة الكاذبة ولا يعطون قيادتهم لجاهل ولا لجبان…
حجم اليسار
ولا أدلّ على ذلك أيضا من إحجام هذا الشعب المسلم الأبيّ عن المرشّحين اليساريّين بما جعلهم لا يخرجون من خانة (الصفر فاصل) :فالنتائج المسجّلة من طرف المرشّحين اليساريّين السبعة كانت مُهينة بامتياز (حمّة الهمّامي: 0.7 % ـ المنجي الرحوي: 0.8 % ـ النّاجي جلّول :0.2 %ـ عبيد البريكي: 0.2 % ـ محسن مرزوق: 0.2 % ـ إلياس الفخفاخ: 0.3 % ـ محمد النّوري: 0.1 % ) فلم تتجاوز في مجموعها 2.5 % ما يعادل 97 ألفا و267 صوتا، بحيث أنّ قيس سعيّد بمفرده يُعدّ سبعة أضعاف الطيف اليساريّ برمّته بجبهاته وتكتّلاته ومشاريعه وحركاته…
لقد هتكت هذه النتائج ستر الأورام والفقاقيع والمستوطنات اليساريّة وكشفت عن ثقلها الحقيقيّ وحجمها في المجتمع التّونسيّ ،كما كشفت عن حجم المفارقة السياسيّة التي مكّنت لهذا الغبار من المنبتّين في الأرض التّونسية الطيّبة كوزراء ونوّاب ومؤسّسين ونقابيّين وسياسيّين بارزين بما يشي بالسند الاستعماري الذي يرعاهم ،وإنّ أيّ انتخابات صادقة ونزيهة لا يمكن إلاّ أن تلفظ هذا النبات الطفيليّ الخبيث النكد من أرض العبادلة والقيروان والزيتونة…