إن من أعظم المصائب التي لحقت بأمة الإسلام في هذا العصر عقب غياب الحكم بما أنزل الله وبعد وقوعها فريسة للكافر المستعمر، ما حل بأبنائها من فقر واحتياج وعوز لم تشهد مثله من قبل رغم ما تعجّ به بلادها من ثروات وخيرات هائلة، منها الزراعية، ومنها المائية، ومنها الظاهر، ومنها الدفين كالطاقة التي هي عصب الحياة الصناعية وروحها، ومنها ما يتعلق بعمقها الجغرافي، ومنها ما يتعلق بعمقها البشري. أضف إلى ذلك أنها تحيى في عصر التقنية والتطور المادي وسرعة الاتصال ويسر المواصلات. رغم كل هذا تجدها -أي الأمة الإسلامية- تصنف في عداد الأمم الفقيرة، بل المنحطة التي تعتاش على فتات الأمم الكافرة والدول المستعمرة. وبتسول بها حكامها النواطير التبّع في محافل الدجل الرأسمالي التي توزع فيها دول الاستكبار صنوف الأوهام والوعود الزائفة للشعوب المنهوبة..
في هذا السياق انعقدت “قمة تمويل الإقتصاديات الإفريقية” بباريس بدعوة من الرئيس الفرنسي ايمانوال ماكرون, يوم الثلاثاء 18 ماي 2021 وحضرها عدد من رؤساء دول افريقية ورؤساء حكومات غربية وقادة مؤسسات مالية دولية وإقليمية. وكان للرئيس التونسي قيس سعيد حضور ولقاءات مع عدد من رؤساء تلك الدول ورؤساء المؤسسات مالية دولية وإقليمية.
وعلى إثر القمة أجرت قناة “فرانس 24” حوارا «حصريا» و«مسجلا» بثته الأربعاء 19 ماي الجاري وهو الحوار الأول لوسيلة إعلام أجنبية والثاني في جعبته بعد حوار أول أيضا للتلفزة الوطنية بمناسبة مرور مائة يوم على توليه المنصب.
وتمحورت أهم التصريحات والرسائل التي أفرد بها رئيس الجمهورية القناة الفرنسية في التالي:
«المناخ السياسي في تونس غير سليم».. «البعض يريد إحباط الجاهزية والعمل على إفساد قمة الفرنكفونية».. «أكره كلمة التطبيع»..
وقد انعقدت هذه القمة في إطار عناوين زائفة تروج فرنسا من خلالها بأنها تسعى إلى إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية التي تعيشها القارة الإفريقية والتي تفاقمت بسبب الأزمة الصحية، وبأنها تهدف إلى تقليص الفجوة المالية التي توقع صندوق النقد الدولي أنها قد تصل إلى حدود 290 مليار دولار سنة 2023 بالنظر إلى المؤشرات المالية الحالية.
هذه القمّة التي لن تكون ذات فائدة على الدول المشاركة فليست إلا محاولة اليائسة من فرنسا لإعادة نفوذها المفقود على جزء من القارّة, وفرنسا ليس وضعها بأفضل من هذه الدول في علاقة بمجابهة فيروس كورونا حيث أن هنالك انتقادات واسعة للحكومة نظرا للفشل الذي حققته في تعاملها مع الأزمة الصحية. كما أن فرنسا نفسها تمرّ منذ سنوات بأزمة اقتصادية كبيرة. فهي تسعى من خلال هذه القمّة إلى محاولة استعادة شيء من دورها في القارة وخاصة في الجزء الفرنكوفوني في ظلّ صراع محتدم على القارّة الإفريقية بين الدول الكبرى على غرار الصين وروسيا وبريطانيا وأمريكا.
وفي انتظار الكشف عن المخرجات الحقيقية لهذه الزيارة التي شهدت لقاءات كثيرة لرئيس الجمهورية سواء مع نظيره الفرنسي أو نظرائه الأفارقة فإن شكل ومضمون الحوار إلى «فرانس 24» كان محل خزي بأتم معنى الكلمة ومثير للجدل وحمّال قراءات متشائمة تعيد طرح الأسئلة الحارقة حول أجندة ساكن قرطاج وبرنامجه ومقاربته للعمل السياسي وإدارة الشأن العام، فهو لم يعد مدرّسا للقانون الدستوري في الجامعة ولا ناشطا حالما بالظفر بكرسي الرئاسة مراهنا على أصوات الناخبين، وإنما هو «رئيس الدولة ورمز وحدتها يضمن استقلالها …». هكذا يقول دستورهم الوضعي الذي انتخب على أساسه..
رسم سعيد صورة قاتمة للبلاد ومهينة لشعبها، وحتى عند الحديث عن قضية الساعة وكل ساعة، قضية فلسطين، اختار الجمل الفضفاضة مقابل تكرار مقولة انتخابية لم يظهر لها صدى في الشارع التونسي اليوم الذي أجمع فيه على «تجريم التطبيع» وتحريك الجيوش لتحرير فلسطين في الوقت الذي يروّج فيه ساكن القصبة مقولة «الخيانة العظمى». بلا صدى في أرجاء حكمه وأفعاله التي تنطق بعكس ذلك. حيث ارتمى مباشرة في حضن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي اللذان سلما فلسطين لليهود..
والمخزي أكثر, وفي غياب أي حسبة أو حساب للشعب.. يوصّف رئيس الجمهورية موقفه من القضية الفلسطينية برمّته ويختزله في حمل «بينز» العلم الفلسطيني -المرتبط أساسا بسلخ فلسطين عن أمة الإسلام في إطار تقسيم سايكس بيكو- في المؤتمر الذي انعقد بباريس ويتفاعل عكسيا مع الشارع التونسي ومطالب الشعب بتوضيح موقفه الداعم للحل أمريكا المتمثل في “الدولتين” وتحريك الجيش نصرة لمسرى حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم, ومشاعره المؤيدة لمشروع قانون لتجريم التطبيع قائلا «اكره كلمة تجريم التطبيع… ما معنى التطبيع هذه الكلمة …؟ هي دخيلة دخلت القاموس بعد اتفاق كامب ديفيد»، أو لا يرى الرئيس أن كامب ديفيد خيانة بل «خيانة عظمى».
نقول وبكل اختصار, إن التعميم والاعتماد المتجدد لصيغة المبني للمجهول, واستعمال البلاغة للتخفي والهروب من مصارحة الناس بحقيقة الخضوع تحت سطوة حكم المستعمرين وأحلافهم ما عاد يجدي الرئيس نفعا في هذه المرحلة التي تشهد فيها تونس والأمة الإسلامية قاطبة خطوات متقدمة نحو التحرر من ربقة استعمار أمريكا والغرب وحلفائهم وأشياعهم, وما عاد لرؤساء تنكّروا وتلونوا وخادعوا شعوب الأمة العزيزة من مهرب ولا من فسيح وقت للمناورة..
ولقد خاطبنا سكان قرطاج السابقين عندما جنحوا إلى تقديم التقارير الدورية في السر والعلن لدوائر خارجية استعمارية وكانوا يستجيرون بقادة الكفر على أهلهم, وأقمنا عليهم الحجة بأن دولة المسلمين الذين يتآمرون عليهم اليوم ستحاسبهم على كل لحظة خداع بادروا بها وهم موكلون على أمر البلاد والعباد, وإن قيامها كردّ الطرف, ألا وهي وعد الله وبشرى رسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
إنه من المخزي مرة أخرى أن يجيب قيس سعيد عندما سئل عن الاستعدادات لاحتضان بلادنا للقمة الفرنكفونية بأنه «هو» النقطة «الايجابية الوحيدة» حسب سمعنا وفهمنا للغة العربية ودلالات الخطاب فيها، فهو من اقترح «جربة» مكانا للقمة.. والإخبار بوجود «من يعمل على إحباط القمة… لحسابات سياسية سيأتي الوقت للإفصاح عنها وعن تفاصيلها» والحال أن رأس السلطة التنفيذية الثاني ونقصد به رئيس الحكومة رتّب مجلسا وزاريا مضيّقا قبل أيام من «رحلة» ساكن قرطاج للنظر في تقدم الاستعدادات لهذه القمة فمن هو يا ترى «الطرف» الذي يريد أن ينغّص على «حكام تونس» هذه التظاهرة الدولية ويفسد علاقاتها مع فرنسا المتهاوية على جميع الأصعدة؟ هل يقصد بالقول حركة النهضة ؟ أم فئة واعية من الشعب ترى في فرنسا العدو الصليبي الذي قتل وشرد وسفك الدماء الطاهرة في أرض تونس ونهب ثرواتها وانتهك كرامات أهلها لعقود ؟؟ ليس كما يراها الرئيس شريكا أولا !!.
وبالعودة إلى المناسبة وهي حضور الرئيس في مؤتمر اقتصادي بالأساس، لم يتردد هذا الأخير في القول أن المناخ السياسي غير سليم وحسب رأيه فإن «في تونس ثروات كثيرة لكن الفعل السياسي أفسد هذه الثروات .. » ويضيف أنه من الضروري أن «تغادر السياسة قصور العدالة… لأنه عندما تتسلل السياسة إلى القضاء ينعدم العدل على الإطلاق» على حد تعبيره، وهنا سؤال بسيط، إن لم يكن في الدولة, أي دولة قضاء عادل ضمن سياستها الداخلية, أي من أسس سياسة رعاياها كيف سيستتب الأمن، وترسى قواعد العدل بين الناس كيف سيتحقق مفهوم الدولة على أرض الواقع ؟؟
وها إن الناظر اليوم إلى أحوال الناس في ظل النظم الرأسمالية الغربية يرى أنها في أسوأ حال؛ من حيث عدم استتباب الأمن، وغياب العدالة من ساحتهم، بسبب تطبيق أحكام النظام الرأسمالي الجائر؛ في أمور القضاء وغيره من شؤون الحياة الأخرى..
وبما أن الرئيس لم يخرج يوما من أسر دروس القانون الوضعي, قال في عاصمة الظلم والظلمات إن كثرة النصوص القانونية لا تعني وجود مجتمع القانون وعلى القانون أن يكون شعبيا وإلا فإن «مع كل نصّ.. يولد لصّ» وفق تعبيره,
ونقول: إن التجزئة الحالية للأمة الإسلامية هي من صنع فرنسا وبريطانيا والغرب الكافر ليستفيد هو وحفنة من الحكام من الثروة ويستفردوا بشعوبها بعد ضرب صفهم الواحد، ويحرم المسلمون حقهم منه، وهو لن يسمح بغير ذلك، ولن يعيد الأمر إلى نصابه إلا الخلافة.
فالخلافة هي مسألة حياه أو موت للدول والشعوب في هذا النظام الدولي الذي يفتقد لمبدأ الأمن الجماعي الذي يقوم على حماية الضعفاء وحقوقهم من الأقوياء وليس افتراسها. إن غيابها وحده الذي يمكن العدو الغربي الرأسمالي من أي دولة وأي شعب، في حين أن وجودها كفيل بحماية الدول والشعوب لا سيما في ظل النظام الرأسمالي المتوحش القائم، والقائمة ركيزته على نظام مجلس الأمن الماسك بزمام القرار والتأثير الدوليين. وإن منع حكم الإسلام علينا كأمة هي الأداة الأساسية التي يعتمد عليها العدو الغربي والخط الأحمر الفعلي عنده. وعليه, فلتكن جهود العاملين للتغير والجادين في ذلك منصبة على إعادة نظام الإسلام العزيز وأحكامه الراشدة, وإلا فإن الحديث عن تغيير فعلي يبقى أمرا بلا معنى.