جون بيركنز خبير اقتصادي دولي جاءت اعترافاته في كتاب (Confessions of an Economic Hitman) “الاغتيال الاقتصادي للأمم” لتلقي الضوء على ممارسات نخبة رجال الأعمال والسياسة في أمريكا لبناء إمبراطورية عالمية سيطرت عليها البيروقراطية، أي حكم منظومة الشركات الكبرى الأمريكية. ويحدد بيركنز دوره مثل أقرانه من صفوة الخبراء في الشركات الاستشارية الأمريكية الكبرى في استخدام المنظمات الدولية لخلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الأمريكية التي تدير الحكومة والشركات والبنوك.
وفي كتابه الذي يعد من الكتب الأكثر مبيعاً، رغم تجاهله في وسائل الإعلام الكبرى إلا أنه ترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة من بينها العربية باسم كتاب “الاغتيال الاقتصادي للأمم” أو “القرصان الاقتصادي”، يوضح جون بيركنز كيف أنه يعمل لخلق ظروف تؤدي لخضوع الدول النامية لهيمنة أمريكا بمصيدة القروض للدول النامية المستهدفة بغرض تطوير البنية التحتية وبناء محطات توليد الكهرباء وغيرها من المشاريع بشرط السماح للشركات الأمريكية بعقد هذه الصفقات، وبهذا تتحول الأموال ببساطة من بنوك واشنطن إلى حسابات شركات في نيويورك أو هيوستن أو سان فرانسيسكو، وهذه الأموال في النهاية تعود إلى أصحاب الشركات البيروقراطية، بينما تبقى الدول النامية مدينة بسداد أموال هائلة من أصل القروض والربا، بحيث يجبر المدين على التعثر لبضع سنوات، وعندئذ تفرض على الدائن الشروط التي تتنوع؛ مثل الموافقة على تصويت ما في الأمم المتحدة أو السيطرة على موارد الدولة أو قبول الوجود العسكري…، فتزداد شعوب الدولة المستهدفة فقراً بينما تنمو ثروة النخبة الحاكمة في كل من الدول النامية وأمريكا، وهي تحرص كذلك على أن تربط النخب الحاكمة في البلدان المستهدفة بها لترتبط رفاهية النخبة الحاكمة في الدول النامية بمصير رفاهيتها وحكمها، والزعماء الذين يرفضون هذه العروض يتم اغتيالهم بفرق خاصة تعرف بالمارينز أو احتلال بلادهم، فاغتيال الملك فيصل وإعدام صدام حسين ومصدق إيران وغيرهم، واجتياح بنما والعراق والإكوادور… كل هذا يؤكد أن كل حرف موجود في كتابه قد حصل على أرض الواقع وتشهد عليه الأحداث.
ونحن في السودان نشهد على ذلك، عن طريق قراءة الأحداث الجارية في بلادنا، وآخر ما حصل في عهد النظام البائد من وضع ميزانية الجوع، ميزانية 2018م، التي تمت بتوصيات من صندوق النقد الدولي، وهي السبب الرئيسي في اندلاع الثورة وهي القشة التي قصمت ظهر البعير وكانت آخر مسمار يدق في نعش الإنقاذ الذي نفذ كل ما تم إملاؤه عليه؛ من انفصال الجنوب وتهيئة بقية البلد للتفتيت، إلى سياسة الصدمات والخداع التي كان يستعملها مع الشعب طوال السنوات الماضية، ولكنها لم تفلح هذه المرة وثار الشعب عليه، فجاءت الحكومة الانتقالية بعد شد وجذب، وأخيرا اتفقوا على تقاسم الحصص بينهم عبر ما يسمى بالوثيقة الدستورية واستُبدلت الوجوه، ثم جاءوا بأكبر خبير اقتصادي في أفريقيا كما يزعمون، خريج البنك الدولي والأمم المتحدة، وظن الناس به خيرا وأنه سيعبر بالبلاد إلى شمس الإشراق، وإذا به يذهب بها إلى نفق مظلم؛ فأعلن أن الحل عند أمريكا وعبر صندوق النقد الدولي والقروض، وهذا غير مستغرب للمتابع، نظرا إلى خلفيته ووظيفته السابقة ليبدأ من آخر نقطة وقف عندها النظام البائد، وهذا يوضح استخفاف السياسيين عموما بالشعب الثائر المكلوم، وتتواصل سياسات التفتيت، وما حصل في الشرق أكبر دليل؛ فإن السبب المباشر في الذي حصل من فتنة هناك يرجع إلى هذا الأسلوب الخبيث وهو المحاصصة في الوزارات على أساس الجهوية والقبلية والمناطقية، وبالتأكيد لن تقبل إثنية أن تمثل إثنية أخرى وزارتها حتى وإن كانوا من منطقة واحدة، ناهيك عما إذا كانت توجد بينهم مجاذبات أصلا، وهذا عندما اختلفت المقاييس التي وضعها الإسلام الذي أمر بتأمير الناس على أساس التقوى والكفاءة وليس على أساس الجهوية والقبلية كما في الأنظمة الوضعية التي تكرس للفتنة.
أيها المسلمون: إن خلاصكم في الإسلام وهو الدين الشامل في الحياة، فبالتأكيد للإسلام نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي يكفل للجميع الحياة الكريمة المشرفة، هذا غير أن تطبيقه على الواقع واجب شرعي على كل مسلم، وهو غير النظام الرأسمالي المسيطر على العالم الذي يرى أن البقاء للأقوى فسيطر على موارد العالم واحتكر تقدمه العلمي الذي لولا احتكاره له لكان العالم متساوياً في التقدم، والإسلام الذي وضع حضارة كانت الأسمى على الإطلاق؛ فجمع بين المنهج الفكري الصحيح والجانب المادي، وحكم العالم لمدة ثلاثة عشر قرناً بعدل وإنصاف، وكانت تحته اليهود والنصارى وغيرهم، وحفظت أعراضهم ونفوسهم وسُمّوا أهل ذمة أي في ذمة المسلمين.
إن المسلمين لا يقع على عاتقهم تحرير أنفسهم فقط بل تحرير العالم الذي يئن من ظلم الرأسمالية البشعة، وهذا كله في منظومة حكمه وفي تنصيب الخليفة عن طريق إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.