ردّ على بيان الجمعية التونسية للوعاظ والمؤدبين حول المساواة في الإرث وزواج المسلمة بكافر
أصدرت الجمعية التونسية للوعاظ والمؤدبين باسم رئيسها المهدي بوكثير* بيانا (بتاريخ 21/08/2017م) بيّنت فيه رأيها من الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية (بتاريخ 13/08/2017م) بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة مطالبا فيه بالمساواة في الإرث وإلغاء منع زواج المسلمة من كافر، وقد أيدت الجمعية مطالب الرئيس ودافعت عنها. وسنعرض فيما يلي بعض النقاط الواردة في البيان مع الردّ عليها من باب النصيحة لعامّة المسلمين.
1. فيما يتعلّق بالتكفير:
ورد في البيان ما يلي: “وفي هذا الصدد، فإننا نرفض رفضا باتا أن يكفر كل مسلم أو كل من كان من المفترض فيه الإسلام ما لم يعلن هو صراحة عن كفره”.
وضع كاتب البيان قاعدة في التكفير مفادها: “من لم يعلن هو صراحة عن كفره فليس بكافر”. ونحن نسأل: ما حكم من قال: أنا مسلم، أشكّ في وجود الله. أو قال: أنا مسلم، أشكّ في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. أو قال: أنا مسلم، لا أعترف بوجود الجنة والنار. أو قال: أنا مسلم، وأنكر حكم الصلاة والصيام والحج. هل هو كافر أم لا؟
فإن حكمت بإسلامه، فعليك أن تعيد النظر في فهمك للدين ككل؛ لأنّ الإيمان بفكرة ما لا ينفصل عن الإيمان والتسليم بأركانها ومكوّناتها التي لا تقوم إلا بها. ومثال ذلك: من قال: أنا ديمقراطي، وأنكر فكرة الحريات، لا يعدّ ديمقراطيا وإن لم يصرّح بذلك. ومن قال: أنا علماني، وأدعو إلى دولة تطبق الشريعة، لا يعدّ علمانيا وإنّ أقسم على ذلك. فهذه بديهية لا تحتاج إلى برهنة. فليس كلّ من زعم الإيمان قد آمن، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}. وأما إن حكمت بكفره، فعليك أن تبيّن لنا وجه تكفيره. ولا وجه لتكفيره إلا أن يقال: أنكر أصلا من أصول الدين أو عقيدة من العقائد القائمة على اليقين أو حكما ثابتا بالقطع. فمن قال: أنا مسلم، وأنكر حكم الصيام ولا أقبل به، كان مكذّبا للنص القطعي في القرآن القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وتكذيب آية في القرآن يعني تكذيب القرآن، فكيف يحكم بإسلام من كذّب القرآن؟.
وعليه، فالمسألة واضحة لا تحتاج إلى كثير بحث، والقاعدة كما تقرّرت هي: من جحد أمرا ثبت بالدليل القطعي الثبوت والدلالة، فقد كفر. ولكن، من يكفّره ومتى وكيف، وهل له من تأويل أم لا، وهل نوقش نقاشا يزيح الالتباس ويحلّ الإشكال أم لا، وهل أقيمت عليه الحجة حتى يعدّ جاحدا أم لا، وهل نشأ في جوّ إسلامي تعلم فيه الأصول والثوابت بالضرورة أم لا، وهل هو جاهل فيعذر بجهله أم لا؟ كلّ هذه الاعتبارات تجعل من أمر تكفير الأشخاص في واقعنا المعيش مسألة معقّدة صعبة يجب تجنّبها، ولكن لا يعني ذلك أن يفتح الباب أمام العابثين بالدين لينشروا ضلالهم بحجة عدم التكفير، والواجب الأخذ على أيديهم وبيان ضلال أقوالهم وفساد أفكارهم وبطلان تأويلهم.
2. فيما يتعلّق بالمجمع عليه والمعلوم بالضرورة:
ورد في البيان ما يلي: ” أما ما سمي زورا وبهتانا بـ”إجماع الأمة”، و”المعلوم من الدين بالضرورة”، فإن مخالفتهما حق مشروع لأي كان لأن هذين المفهومين لم يردا لا في التنزيل الحكيم ولا في السنة الرسولية الصحيحة”.
نقول: يطلق مصطلح إجماع الأمة للدلالة على أصل من الأصول التي تعتمد كمرجع ومصدر تشريعي، وهذا من البحوث الأصولية التي لا نريد الآن الخوض فيها. ويطلق أيضا مصطلح إجماع الأمة للإشارة إلى ما استقرّ في وجدان الأمّة من مفاهيم إسلامية وأحكام شرعية، فهو في هذا السياق على ارتباط بمفهوم “المعلوم من الدين بالضرورة”، قال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير: “إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل للشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبيء صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن، وهذا من أحوال إثبات الشريعة، به فسرت المجملات وأسست الشريعة، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه”، وهذا الذي نريد بيانه والوقوف عليه بحسب ما يقتضيه المقام.
فمن المعلوم أنّ لكلّ حضارة تتبناها أمّة من الأمم ثوابتها التي لا تقبل النظر فيها البتة أي لا تقبل التغيير بل لا توضع موضع نقاش وبحث وحوار. ومثال ذلك: الغرب يتبنى الديمقراطية، والديمقراطية لها مجموعة ثوابت لا يقبل الغرب تغييرها ولا النقاش والبحث فيها كالحرّيات. فهل يمكن لرئيس فرنسا مثلا أن يصدر مبادرة لإبطال العمل بالحرّية الشخصية أو الدينية؟ أو هل يمكن لرئيس فرنسا مثلا أن يصدر مبادرة لمنع الممارسة الجنسية دون زواج؟ لا يمكن له ذلك؛ لأنه يخالف ثوابت مبدئه وحضارته، ويخالف المجمع عليه لدى الفرنسيين والمعلوم من الحضارة الغربية بالضرورة. وبناء عليه، فليس من الزور والبهتان أن يستأنس في مسائل بإجماع الأمة والمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأنّ الحضارة الإسلامية لها ثوابتها التي أجمعت عليها الأمّة وأصبحت معلومة لدى الكافّة بل هي معلومة بالضرورة لدى الكفار أنفسهم كحرمة الخمر ولحم الخنزير والزنا ووجوب الحج والصيام غير ذلك. والزور والبهتان هو أن تنسف ثوابت الأمة وأن يصبح الإسلام كلّه بأصوله وفروعه وقطعياته وظنّياته عرضة للتغيير والتبديل والتأويل. نعم، قد يقال: إن المعلوم من الدين بالضرورة نسبي يختلف من زمن إلى آخر، فما كان في الأزمنة السابقة من المعلوم بالضرورة أصبح في زمننا هذا من المجهول بالضرورة. وهذه حقيقة تفيد في التماس العذر بالجهل في مجتمعنا الذي عانى من سياسة تجفيف منابع الدين وتعلمن بالحديد والنار، ولكنّها لا تغيّر من ثوابت الدين.
3. فيما يتعلّق بالسنة:
ورد في البيان ما يلي: ” … ولا في السنة الرسولية الصحيحة، وآية صحتها أن لا تكون مخالفة للقرآن الكريم لا في الكثير ولا في القليل”.وورد أيضا: “ولكن الفقهاء نسفوا هذا بحديثين نسبوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول أولهما : “لا وصية لوارث”، والحال أن الآية الكريمة تقول: “إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ”، والوالدان والأقربون هم من الورثة، وثانيهما هو حديث سعد بن الربيع الذي أصبح العم يرث بمقتضاه والحال أنه لا إشارة للعم في الوارثين المنصوص عليهم بالآية الحادية عشر من سورة النساء، ولا بغيرها من آيات المواريث الأخرى الواردة في القرآن الكريم”.
هذا الكلام يبيّن لنا حقيقة منهج الكاتب ونظرته إلى السنة النبوية، فهو يشترط لصحة السنة عدم مخالفتها للقرآن، وهذا من الشروط الفضفاضة المحتملة لمعان كثيرة والمؤدية إلى ابطال العمل بالسنة بحجة المخالفة لنص القرآن. والصحيح أنّ ضابط علاقة السنة بالقرآن لم يفت علماء الأمّة فتقرّر عندهم منذ قرون أنّ من شروط قبول الحديث دراية هو عدم معارضته للقرآن معارضة يستحيل معها الجمع بينهما، وليس مجرّد المخالفة التي يمكن معها الجمع والعمل من خلال تخصيص العام وتقييد المطلق وتفصيل المجمل وإلحاق الفرع بأصله.علما أنّ السنة كمصدر تشريعي تستقلّ بالتشريع فتأتي بأحكام شرعية جديدة لا أصل لها في القرآن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَإِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ”.
وأما قول كاتب البيان: “ولكن الفقهاء نسفوا هذا بحديثين نسبوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول أولهما: “لا وصية لوارث”…وثانيهما هو حديث سعد بن الربيع الذي أصبح العم يرث بمقتضاه…”، ففيه طعن في نزاهة العلماء الفقهاء، وفيه أيضا محاولة للتشكيك في صحة أحاديث ثابتة.
4. فيما يتعلّق بالاجتهاد:
ورد في البيان ما يلي: ” أن علوم القرآن التي شهدت تمددا متواصلا طيلة القرون الخمسة الأولى من الهجرة وأنتجت ذلك الكم الضخم من التراث الفقهي والمعرفي قد توقفت نهائيا مع قرار القاضي ابن الصلاح القاضي باعتماد المذاهب الفقهية الأربعة والصحاح الستة والمذهبين الأشعري والماتريدي وإلغاء كل ما سوى ذلك واعتباره مخالف للإسلام … ومنذ ذلك الحين أي منذ حوالي عشرة قرون، و”علماؤنا” متحجرون غير قادرين على مواءمة النصوص مع الواقع المعاش، بل يرجعون في كل شيء إلى التراث، وكأن الواقع لم يتغير طيلة ألف سنة، فأصبح فقه الأموات يسير حياة الأحياء… وعليه فإننا ندعو إلى إعادة النظر بصفة جذرية في التعليم الزيتوني والاعتماد على ما أنتجه المفكرون المعاصرون من اجتهادات تحاول الخروج بالفقه من عنق زجاجة القرون الخمسة الأولى…”.
إنّ الاجتهاد المعاصر الذي يتحدث عنه كاتب البيان هو إلغاء أحكام الميراث الثابتة بالنص، وإباحة تزوج المسلمة من يهودي ونصراني، وهذا الاجتهاد مع النصّ أو في الثوابت القطعية باطل ومردود على صاحبه؛ لأنّ الاجتهاد الذي أقرّه الشرع وحثّ عليه يكون في الأمور الظنّية ولا يكون في القطعيات والثوابت. فلو فتحنا باب الاجتهاد لكل شخص ليقول برأيه في كلّ مسألة دينية شرعية قطعية تمشيا مع العصر لأصبح الإسلام كلّه محلّ نظر وشكّ. فإذا كان الكاتب قد أجاز لنفسه الاجتهاد في مسألة الميراث التي بتّ الله سبحانه فيها بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}، فيجوز له أيضا أو لغيره الاجتهاد في غير ذلك من المسائل التي بتّ فيها الشرع، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، فتصبح عقائد المسلمين وعباداتهم ومعاملاتهم المقرّرة بالنص محلّ أخذ وردّ، وهذا لا يقول به عاقل يفهم الإسلام حقّ فهمه.
5. خاتمة:
لم نبحث مع الكاتب مسألة المساواة في الإرث أو مسألة زواج المسلمة من كافر؛ لأنّ هذه المسائل قطعية ثابتة وقع البتّ فيها، ومن الخطأ أن تعرض للأخذ والردّ والنقاش، وأما من كانت له شبهة فيها فقد تكفّل العلماء منذ قديم الزمن بتبيانها وشرحها بالأدلة المستفيضة المقنعة، فمن شاء أن تطمئن نفسه لما قضى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم فليراجع كتب العلم الشرعي وسيجد فيها بغيته. وأما ردّنا فقد انصبّ على بعض النقاط المنهجية لإظهار الخلل المعرفي الشرعي عند كاتب البيان في تناول الثوابت والقطعيات الإسلامية. والله نسأل أن يلطف بالخضراء بلد الزيتونة وأن ينبت فيها النشأ الصالح العدل ممن يحملون علم الشرع الحقيقي وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ياسين بن علي