رسالة إلى المهاجرين في قوارب الموت
الهجرة في ديننا عظيمةٌ، كديننا العظيم، جعلها الله متحولا لعباده، وقدَّرها في قضائه وقَدَرِهِ وسيلةً لبلوغ غاية التغيير نحو الأفضل, قال الله تبارك و تعالى:” وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً” أي يا أيها الإنسان، يا أيها الشباب، إن كانت هجرتك لله، وكنت تخاف من الهجرة وترك الوطن وتكره العيش في الغربة، فإن الله سيكرمك في دار هجرتك، و سيجعل لك من ضيقك مخرجا، ومن فقرك سعة في العيش. وكلمة في سبيل الله، فَسَّرَهَا حبيبُنا صلى الله عليه وسلم وحديثه من صحيح الترغيب، يوم مر به رجل فرأى الصحابة من قوته و نشاطه، فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله”.
والهجرة هي سنة الله في الرسل الكرام، فهذا جدنا إبراهيم عليه السلام بعدما أنجاه الله من النار و نصره على الكفار قَالَ:” إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي” وهذا نبي الله لوط عليه السلام تبلغه الملائكة أمر ربه: ” قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ” و هذا كليم الله موسى عليه السلام ينفذ أمر الله:”وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ”. و أعظم هجرة في التاريخ، هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، أسست أعظم دولة عرفها التاريخ و ركّزت أعظم دين إلى يوم الدين..
هذه هي الهجرة المحمودة في ديننا، أن تكون في سبيل الله، و لم يعرف المسلمون هجرة سواها على مر العصور التي كانوا يطبقون فيها أحكام الشريعة الإسلامية، و لم تكن سفنهم تسافر إلى أوروبا إلا من أجل أن يأتوا الأرض من أطرافها فاتحين ولكلمة التوحيد ناشرين، كما أمرهم بذلك ربُّ العالمين، إلى أن دارت عليهم الدوائر و تداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فأصبح شباب الأمة الإسلامية يركب قوارب الموت، و لا يمر أسبوع من دون أن نسمع عن شباب غرقى ضحايا البحر، وهؤلاء الضحايا ليسوا سوى شباب الهجرة السرية “الحرقة”، و لعل آخرها ما حدث للقارب الذي خرج من جزيرة قرقنة متجها إلى ايطاليا، فلقي أكثر من ستين شابا مصرعهم عند اصطدام مركبهم بمركب للجيش التونسي، نسأل الله أن يتغمدهم برحمته و أن يرزق أهلهم جميل الصبر و السلوان
لسنا هنا في هذا المقام من أجل أن نبحث في ملابسات الحادث، أحصل ذلك خطأ وفق الرواية الرسمية لوزارة الدفاع، أو كانت الحادثة مقصودة وفق رواية شهود عيان، فالمسألة وكلت للقضاء العسكري، و لكن نريد أن نسلط الضوء على هذه الظاهرة الغريبة التي أصبحت متنفسا للشباب الراغب في تحقيق أحلامه عبر الوصول إلى ضفة الفردوس الأوروبي.
إن أول سؤالٍ يُطرح عند محاولتنا فهم ظاهرة الهجرة عموماً السرية أو المشروعة، هو ما الذي يدفع شخصاً إلى ترك وطنه وأهله وأصدقائه، والارتماء في أحضان المجهول والغربة؟ والجواب هو: البحث عن ظروف أفضل، وهذا البحث عن التحسين ينقسم إلى قسمين: قسمٌ أول يندرج تحته الهاربون من أجواء الفقر والحاجة وانعدام الأمن إلى جوٍّ يوفر لهم أدنى متطلبات العيش، كالغذاء والشراب والأمن، وقسمٌ ثانٍ يندرج تحته الباحثون عن كماليات بمستوى أعلى، كالمهاجرين للتعلم أو لوظيفةٍ توفر مرتباً أعلى أو لضمان مستقبل أبنائهم، أو للتعبير عن آرائهم السياسية..ومما لا شك فيه أن المرشحين للهجرة السرية يندرجون تحت القسم الأول، فهم هاربون من الفقر والبطالة وانعدام الخدمات الصحية والتعليمية فدولة الحداثة المزعومة تخلت عنهم و هم يعيشون في ظروفٍ أقرب ما تكون من المجاعة.
فماذا يُـنتظر من أشخاص هذا حالهم؟ أيُنتظر منهم أن يجلسوا في بيوتهم حتى ينهشهم المرض والجوع واحداً تلو الآخر؟ أم ينتظر ممن لا يكاد يجد ما يسدُّ به رمقه أن يجلس في بيته يحمد الله على ما ابتلاه به من فقرٍ وهو يرى على شاشات التلفاز كيف يتقلب الأوروبيون والغربيون في النعم والأموال والسيارات!؟
قد يقول قائل إن هذا هو الحسد بعينه، فهل ذنب أوروبا هو أنها حققت لأهلها نهضةً ووفرت لهم ظروف عيش كريم؟ وما ذنبها هي إن كانت الدول العربية، أو البلدان المصدرة للمهاجرين عموماً، فقيرةً لا تُوفِّـر لأهلها مثل ما توفِّـر هي لأهلها؟ فالفقر لا يمكن أن يكون مبرراً مقبولاً لهؤلاء لمحاولة الدخول بالقوة إلى أوروبا وإجبارها على حل مشاكلهم. قد يقال هذا، إلا أن هذا القول يجانب الصواب لسببين:
1- لا يمكن أن نطلب ممن لا يجد ما يأكل أن يجلس مؤدباً في بيته وهو يرى أطنان المأكولات تُلقى في القمامة في أوروبا، ولا يمكن أن نطلب ممن التصق بطنه بظهره من الجوع، أن يجلس مؤدباً في بيته وهو يرى المبالغ الطائلة تنفق في بلاده على السياسيين الفاسدين و على الإعلاميين الانتهازيين و يرى خيرات بلاده يقنن لنهبها، و لا يناله منها شيء. فردَّة الفعل هذه طبيعيةٌ ومتوقعة. جاء في الأثر عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنّه قال: « عَجِبْتُ لمن لا يَجِدُ قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه »، وقديماً قالت العرب: « صاحبُ الحاجة أرعن »، فكيف إذا تعلق الأمر بالحاجات الأولية الضرورية كالمأكل والمشرب والمسكن وقوت الأطفال؟ بالطبع سيسعى صاحبها إلى أي حلٍّ مهما كان الثمن.
2- إن أوروبا والغرب ليسا بريئين مما تعانيه بلداننا من فقر، فالبلاد العربية و الإسلامية ليست فقيرة أصلاً، ولكن الذي أفقرها هو سياسة النهب الممنهجة التي انتهجتها الدول الغربية لثرواتها، فلم يعد خافياً على أحدٍ أن الشركات الغربية العملاقة تملك حقوقاً احتكارية لكل خيرات هذه الدول باطنيةً كانت أم سطحية. فهذه الدول قد تم إفقارها نتيجة نهب الدول الاستعمارية من جهة، ثم تعاقب الحكومات الفاسدة المدعومة من الغرب أيضاً التي تطلق يدها في نهب خيرات دولها وتحولها إلى الحسابات البنكية السرية في أوروبا أيضاً من جهة أخرى. فأوروبا مسؤولةٌ مسؤوليةً مباشرةً عن إفقار هذه الدول، ولا يمكن تبرئتها مما يعانيه أهل تلك الدول من ضنكٍ للعيش.
إلا أن تحميل مسؤولية اهتراء البنية الاقتصادية للدول الإسلامية للجانب الأوروبي لا يعني تبريراً لتدفق المهاجرين على أوروبا. ذلك أن سعيهم للهجرة بدل العمل على تغيير أوضاع بلدانهم ينم دون شكٍّ عن جهل وانعدام وعي عميقين. فإن تعلق شباب المسلمين بأوروبا أشبه ما يكون بِتَـعَلُّق اليتيم بقاتل أبيه! فأوروبا هذه التي يحلِمون ليل نهار باليوم الذي تطأ فيه أقدامهم ترابها هي السبب فيما يعانونه، وتاريخ أوروبا مع بلدانهم أشدُّ سواداً من الليل الحالك، لا تنقضي فيه مصيبة حتى تبدأ أخرى: فمن الاستعمار المباشر وما صاحبه من حملات إبادةٍ جماعية ونهبٍ مجنون، إلى الاستقلال الصوري وتنصيب الحكومات العميلة وسياسة القمع والتنكيل وكمِّ الأفواه.
لا نشكُّ أن العمل على قلب الأوضاع في تلك البلدان وما يقتضيه من وجوب الاشتغال بالسياسة ومحاسبة الحكام بشكل جدي سيجُـرُّ على أصحابه الويلات، و الدول العربية نموذجٌ صارخٌ على المستوى العالمي في القمع والتنكيل وانعدام الحد الأدنى من الحرص على كرامة الإنسان، لكن أليس هذا العذاب الذي يَفِـرُّ منه هؤلاء المهاجرون بالسعي للهجرة بدل محاسبة حكامهم هو عين ما يجدونه خلال رحلات هجرتهم؟
فلا أبالغ إن زعمت أن أسماك البحر الأبيض المتوسط قد تضخَّمت من الاقتيات على لحوم المهاجرين الذين يلفظهم البحر يومياً بالعشرات بعد انقلاب زوارقهم المهترئة. أما من نجح منهم في الوصول إلى البر الآخر، فباستثناء نسبةٍ قليلةٍ ممن يحالفهم الحظ، فمعظم المهاجرين يجدون أنفسهم ضحيةً لشبكات الجريمة المنظمة أو الدعارة، أو على أقل تقدير عبيداً لمشغلين جشعين يستغلون وضعيتهم فيشغلونهم بأجور زهيدة محرومين من أدنى الحقوق التي يستمتع بها قرناؤهم من أهل البلاد الأصليين. فإذا كان هذا ما ينتظر المهاجر السري في رحلته: الموت الزؤام وإلا العذاب والمذلة، أفلا يكون من الأجدى له أن يمكث في بلده ويعمل على إصلاحها؟ فالمسلم لا يعيش حقيرا و لا ذليلا، جاء في صحيح الجامع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لا ينبغي لمؤمن أن يُذِلَّ نفسه” يعني لا يجوز لمسلم أن يعيش ذليلا بين المسلمين، فما بالكم إن عاش ذليلا بين الكافرين.
رسالةٌ أوجهها إلى كل من يفكر في الهجرة السرية: إن حل مشاكلكم لا يكون بالهرب وترك بلدكم نهباً للفاسدين، فإنكم تعلمون أنكم إن نجوتم بجلودكم، واستطعتم أن تصلوا إلى الشاطئ الآخر، فلا تعتبروا أن مشاكلكم قد حُلّت بمجرد ملامسة أقدامكم للبر الأوروبي. فإن واجبكم أن تحاسبوا أولئك الذين تسببوا في إفقار بلدانكم، وتنكروا عليهم ما يفعلون على أقسى ما يكون الإنكار، فإن استجابوا لكم فَبِهَا ونِعْمَتْ، وإلا فلا تستسلموا، اضغطوا عليهم بكل الوسائل الشرعية، ولا ترضوا أن يتحكَّم في رقابكم من لا يرعى مصالحكم ولا همَّ له إلا ملء جيوبه وجيوب أسياده، و لا يكترث بكم ولو أدى ذلك إلى موتكم جوعاً. فإن وُفِّـقتم في ذلك، فقد مُكِّـنتم من خيراتكم وهي كافيةٌ لكي تضمن لكم وَلِخَلَفِـكُم عيشاً كريماً، وإلا فما حاجتكم بعيشٍ تُمتهن فيه كرامتكم على مدار الساعة، وترون فيه ثرواتكم تُنتهب أمام أعينكم بينما تتضوَّرون أنتم جوعاً؟
فيا معشر الشباب ويا أيها المهاجر، الأرض التي تقصدها غير راغبة في حلولك، ناسها يحتقرون أصلك و لونك و يخافون لغتك و دينك، يا أيها المهاجر، تركب البحر في ظلمة الليل وتحمل حلما زائفا تطمع بالسيارة الفخمة والمسكن الكبير و تمني النفس بالرفاهية و المال الوفير، هذا الحلم قد لا يصل بك إلى الضفة الأخرى، فيموت حلمك في أفواه الأسماك، و يتحطم القارب و يرمي بك الموج على ساحلهم، لتدفن في قبر لا يحمل لك إسما، و في أسعد الحالات أنك ترى الضفة الأخرى، ترى الأرض الخضراء، فإذا أنت موقوف، وغير شرعي، مسلوب الحرية، يتم تجميعك و تكديسك في معسكر المهاجرين غير الشرعيين، لينظروا في مصيرك، و ربما تعاد بعد مدة من حيث قدمت. أما إذا أسعفك الحظ، و تسللت إلى أرضهم، فاستعد للنوم على الأرض، و بردهم لا يعرف الرحمة.. تنام تحت قنطرة، أو في زاوية من حديقة، لتبحث في النهار عن عمل، والكل ينظر إليك نظرة احتقار، وتجوع، و تضيع منك السنوات و السنوات.
أيها الشباب: حتى الذي يعمل هناك، اسألوه، ليجيبكم بإنه يذوق الأمَرَّين، يذوق مُرَّ العنصرية و عدم المساواة، و يذوق مُرَّ التعب و الإرهاق، يسومونه سوء العمل مع سوء المعاملة ..
معاشر الشباب، صحيح أن حالكم فوق أرضكم يجبركم على الرحيل، صحيح أن الضياع قام بيننا زمنا طويلا.لكن.. من الرزَّاق. من بيده خزائن السماوات و الأرض. إنه الله. إنه الودود الرحيم، وسعت رحمته كلَّ حي.و هو بالمؤمنين أرحم، و هو الذي أخبر ثم أقسم، أخبر أن رزقنا في السماء، ثم أقسم إنه لحق فقال جل جلاله:”وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ..فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ”.
أيها الشباب: أرضنا واسعة، وأرض المسلمين شاسعة، والخير كل الخير في أوطاننا، وإني أرى فجر ليلنا ينبثق، لا بد لهذه الثورات من لم شمل المسلمين، لا بد لهذه الثورات، من استعادة ثروات المسلمين، سيشمل التغير بإذنه تعالى نحو الأفضل كل أرض المسلمين، الأجانب نراهم يخرجون و معهم الدساتير الوضعية التي فرضوها على المسلمين لنهب ثرواتهم، سيطبق القرآن و السنة ولن نرى في بلاد المسلمين فقيرا و لا محتاجا و لا مسكينا، و لن نرى رويبضة يحكم المسلمين، و سيعمل المسلمون فوق أرضهم. وسيشهد التاريخ عز المسلمين، فيا أبنائي لا تخاطروا بأنفسكم و لا بدينكم، فالعز في أوطانكم و الكرامة بين أهلكم، فاصبروا و صابروا. فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعسْرِ يسْرًا.