ريّاس الجزائر العثمانيّة والسّيطرة على البحر المتوسّط الرّايس حميدو نموذجا

ريّاس الجزائر العثمانيّة والسّيطرة على البحر المتوسّط الرّايس حميدو نموذجا

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

 لطالما كان البحر الأبيض المتوسّط بحيرة إسلاميّة خالصة يصول فيها الأسطول العثمانيّ ويجول ويفرض مصالح الدّولة الإسلاميّة على الجميع، حتّى أنّ المدن الأوروبيّة السّاحليّة كانت تُخرس نواقيس الكنائس إذا مرّ من أمامها مخافة استفزازه فيقرّر فتحها..وقد أمّن له هذه السّطوة وهذا الصّيت ريّاسُ البحريّة الجزائريّة العظام على غرار الأخوين عرّوج وبربروس والرّايس ميمو والرّايس شلبي والرّايس حميدو وغيرهم: فقد أجبروا الأساطيل الأوروبيّة والأمريكيّة على دفع الجزية لعبوره وهم صاغرون وحالوا دونهم وغزو ضفافه الجنوبيّة الإسلاميّة ثلاثة قرون..كما كانوا على ثغرة من ثغور الإسلام في مرحلة حرجة من حياة الدّولة العثمانيّة تكالبت عليها فيها القوى العظمى وأدخلتها في دوّامة من الحروب الطّاحنة أفضت بها إلى الضّعف والانحلال حتّى أنّها لُقّبت بالرّجل المريض (الحروب الرّوسيّة العثمانيّة ـ حرب البلقان الأولى والثّانية ـ التوسّع الصّيني في آسيا الوسطى..)..ومن مآثر البحريّة الجزائريّة التي ستبقى وصمة عار على جبين فرنسا الاستعماريّة أنّها وضعت القنصل الفرنسيّ في ماسورة المدفع العملاق المسمّى (بابا مرزوق) وقذفت به تجاه الأسطول الفرنسيّ، في موقف عزّ وحركة إهانة لم يشهد التّاريخ مثيلا لها، حتّى أنّ فرنسا عندما احتلّت الجزائر سنة 1830 سارعت إلى مصادرة هذا المدفع ونقله إلى مدينة مرسيليا لمحو عارها الأبديّ (وتلك الأيّام نداولها بين النّاس)..

الرّايس حميدو

وقد اخترنا في هذه الأسطر أن نسلّط الضّوء على آخر رايس جزائريّ حكم البحر المتوسّط، وهو البطل حميدو بن علي الثّعالبيّ محرّر وهران وقاهر القوى الاستعماريّة وفارض الجزية على أمريكا ودول أوروبا، وذلك لأنّه غُيّب من التّاريخ وهُمّش وتعرّض لكمّ هائل من التّشويه..أمّا عن نشأته فقد ولد في عام 1770م في حي القصبة بمدينة الجزائر، اسمه الحقيقي محمد ولكنه اشتهر بلقب (حميدو)، كان أبوه خياطًا من عائلة جزائرية تقطن مدينة “يسر” وتنتسب إلى قبيلة الثعالبة التي كانت تحكم مناطق في الجزائر قبل الحكم العثماني..والثعالبة قبيلة عربية تعود إلى بني ثعلبة بن بكر بن وائل إحدى قبائل ربيعة بن نزار..دخل في البحرية الجزائرية عندما كان عمره 10 سنوات فقط، حيث كانت وظيفته في سفينة الرايس ميمو هي (صبي المقصورة) وكانت مهامّه بسيطة مثل مساعدة الطاهي ومسك عجلة القيادة لإبقاء السفينة ثابتة ولكنه استطاع أن يتعلم الكثير ويفرض نفسه في المراكب المختلفة خلال سنوات عمره..وقد تنبّه إليه الرّايس شلبي الذي أعجب بشجاعته وبحنكته الفريدة، ثم نجح حميدو في اختبارات طائفة ريّاس البحر، فترقّى ليصبح قائد سفينة..وكان الظهور الفعلي له حينما شارك في حملة والي الغرب الجزائري الباي محمد بن عثمان الكبير لتحرير وهران عام 1792م، حيث استطاع الرّايس حميدو قلب موازين المعركة وتحويل الهزيمة أمام الأسطول الإسباني الأكثر عددا إلى نصر مؤزّر ما أدّى إلى تحرير وهران، فقام الباي بتعيين الرايس حميدو زعيما على كامل البحرية في وهران اعترافا منه بدوره في تحريرها..

مسيرة حافلة

كانت للرّايس حميدو مسيرة حافلة بالانتصارات على الأساطيل النّصرانيّة: فقد استولى على سفن تابعة للولايات المتحدة الأميركية وساقها إلى السواحل الجزائرية، وذلك لأنّ بريطانيا خفّضت من دفع جزيتها بحجة الاستقلال الأمريكي، لذا فقد اضطرت أمريكا إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في 5 سبتمبر 1795م، تدفع بموجبها واشنطن مبلغ (62 ألف دولار ذهبا) للجزائر لقاء حرية المرور والحماية لسفنها في البحر المتوسط، وتعدّ هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردّت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها..بقي الرّايس حميدو حاكما لبحرية وهران حتى عام 1797م حيث توفّي الباي محمد بن عثمان الكبير الذي كان يسانده، فاستغل الكارهون له حادثة تحطم سفن استعملها نتيجة عواصف شديدة في حملة ضد مستعمرة فرنسية، فهاجر الرّايس حميدو إلى المغرب، وقام بإرسال إحدى سفنه إلى مدينة الجزائر وقامت بإنزال العلم الجزائري قبل وصولها للشاطئ، وهذا في البروتوكولات البحرية الجزائرية آنذاك يعني أن قائد السفينة قد قتل أو هاجر..في عام 1802م تمّ العفو عنه تقديرا لإنجازاته، وعاد إلى الجزائر وبعد أيام قليلة قاد سفينة واستطاع بها في 8 مارس 1802م أن يهزم أكبر فرقاطة برتغالية، حيث أنّه بعد أن شاهد التفوّق العسكري للفرقاطة البرتغالية والتي تحتوي على 44 مدفعا، قام برفع علم إنجليزيّ ليقترب من البرتغاليين، فوقع البرتغاليّون في الفخ، وما أن اقترب الجزائريون حتى هاجموهم، وصعدوا إلى السفينة، وأسروا 282 برتغاليًا، وسيطر حميدو على الفرقاطة وضمها للأسطول الجزائري وأطلق عليها اسم (البرتغالية)..وفي 28 مايو من نفس العام، استولى حميدو على فرقاطة برتغالية أخرى فيها 36 مدفعا..

زعيم البحار وقائد الأسطول الجزائريّ

بعد النجاحات والانتصارات التي حققها الرايس حميدو تم استقباله في الجزائر استقبالا شعبيّا وتمت ترقيته عام 1802م ليصبح قائد البحرية الجزائرية بكاملها بعد أن فرض نفسه حاكما للبحار..وفي عام 1808م تولّى الحكم الداي علي الغسّال الذي اعتبر الرايس حميدو منافسا له نتيجة الشعبية التي كان يتمتع بها، فقام بالتآمر عليه مع عدد من المحيطين به الطامعين بأخذ منصبه، وحينها قام حميدو بالذهاب إلى بيروت، ولكن في عام 1809م تولى الحكم الحاج علي خليل والذي أعاد الرايس حميدو لمنصبه..قام الرايس حميدو بتطوير البحرية الجزائرية وحوّلها لجيش ضخم عدده 130 ألف بحار، ومن أشهر السفن الحربية الجزائرية وقتها (رعب البحار ـ مفتاح الجهاد ـ المحروسة) وغيرها، وزاد سطوع نجم البحرية الجزائرية في ذلك الوقت، وخضع البرتغاليون فوقّعوا معاهدة سلام مع الجزائريين عام 1810م، ودفعوا تعويضات كبيرة في عام 1811م..وفي عام 1812م صادر حميدو سفينة إنجليزية، وفي الفترة بين 1812م و 1815م صادر سفن من اليونان وصقلية والسويد وهولندا والدنمارك واسبانيا، وبعد أن قامت أمريكا بنقض المعاهدة صادر سفن أمريكية، ووفقًا لبعض المصادر خلال مسيرته المهنية استولى حميدو على أكثر من 200 سفينة..كما أرغم الدّول والممالك النّصرانيّة على دفع إتاوات إلى الجزائر الإسلاميّة: فكانت مملكة الصقليتين تدفع مبلغ 44 ألف بياستير سنويا منها 24 ألفا نقدا والباقي في شكل بضائع..ومملكة توسكانيا الإيطالية: تدفع 23 ألف بياستير كلما جدّدت قنصلها بالجزائر..ومملكة سردينيا الايطالية: تدفع مبلغا كبيرا من المال كلما جدّدت قنصلها بالجزائر..والبرتغال: تدفع مبلغ 44 ألف بياستير سنويا..وإسبانيا: تدفع مبالغ ماليّة مرتفعة كلّما جدّدت قنصلها..والنمسا: تدفع هدايا دورية مباشرة وعن طريق الدولة العثمانية..وإنجلترا: تدفع 600 جنيه إسترليني كلما جدّدت قنصلها..وهولندا: تدفع 600 جنيه إسترلينيّ..وأمريكا: تدفع 600 جنيه إسترليني، ثم ارتفعت إلى 62 ألف دولار..ومملكتا هانوفر وبريم الألمانيتان: تدفعان مبالغ مالية كبيرة كلّما جدّدتا قناصلهما..والسويد والدانمارك: تدفعان مبالغ مالية كبيرة سنوية في شكل مواد حربية قيمتها 400 بياستير.. 

استشهاده وتشويه صورته

بتاريخ 17/06/1815 وبينما كان الرايس حميدو يبحر في سفينة المسعودة تعرّض لكمين، فهاجمته 10 سفن من أمريكا والبرتغال اللتين نقضتا معاهدتيهما معه، وعندما أدرك حميدو بأنّ نهايته اقتربت أمر أحد ضباطه بإلقاء جسده في البحر في حال مقتله، وكان مقتله بقذيفة مدفع أصابته حينما كان واقفا على المنصة فتمّ تنفيذ وصيّته..وقد حاولت أمريكا مصادرة سفينة المسعودة وسحبتها نحو شاطئ إسبانيا، ولكن البحرية الجزائرية استعادتها..وبوصفه رعب البحار وتنّين المتوسّط فقد كان بمثابة الدّابّة السّوداء للأساطيل والملاّحة الأوروبيّين، لذلك فقد تعرّضت سيرة الرايس حميدو لعملية تشويه واسعة بداية من تهميشه بعدم تسليط النور عليه وإخفاء اسمه من السجلات..كما تمّ تصويره في صورة قرصان وهذا أمر خاطئ حيث أنّ جميع الدول آنذاك كانت تفرض سيطرتها على البحر بنفس الطريقة ـ والحروب البحرية بين بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وهولندا غنيّة عن الذّكر ـ وفي هذا الخضمّ كانت الجزائر آنذاك سيدة البحار التي تدفع لها الدول العابرة للبحر الجزية..وللأسف انخرطت السينما العربية في هذه الحملة المغرضة فاستخدمت اسم حميدو استخداما سيّئا، فقدّمته بدور البحّار الفاشل الذي لا يعرف ماذا يفعل، وبدور الرّجل السكّير التّافه السّاذج المتعطّش للدّماء..ومن أكبر المغالطات المروّجة ربط نهاية السطوة البحرية الجزائرية ودخول الاستعمار الفرنسي بمقتله، وهذا خاطئ حيث أنه في معركته الأخيرة قلب الموازين وكاد ينتصر لولا قذيفة أصابته، كما أن البحرية الجزائرية استطاعت أن تستردّ سفينته التي كانت أمريكا تسعى لأخذها، وأمّا نهاية السطوة الجزائرية فكانت حينما هزمت مع الأسطول الإسلاميّ في معركة نافرين عام 1827م..

ثغرة الأسطول الجزائريّ

 سنة 1827 وبعد معركة نافارين بين الأسطول العثمانيّ والأساطيل الأوروبيّة، انهزمت البحريّة الإسلاميّة التي كانت معزّزة بأسطول الجزائر حيث قُضي على هذا الأسطول ولم يعد له وجود وانفتح البحر الأبيض المتوسّط على كلّ من هبّ ودبّ بعد أن كان بحيرة إسلاميّة خالصة محروسة بالأسطول الإسلاميّ وريّاس الجزائر على غرار عرّوج وبربروس والرّايس ميمو والرّايس شلبي والرّايس حميدو..وبعد ثلاث سنوات فقط من هزيمة نافارين استطاعت فرنسا أن تغزو الجزائر سنة 1830، وكان ذلك فاتحة لحملة استعماريّة على العالم الإسلاميّ قاطبة تواصلت طيلة القرن التّاسع عشر وكلّلت بسقوط الدّولة العثمانيّة وتقسيم العالم الإسلاميّ غنيمة بين الدّول الاستعماريّة الأوروبيّة..فعلا لقد كان الأسطول الجزائريّ على ثغرة من ثغور الإسلام والمسلمين حمى الجزء الغربيّ من العالم الإسلاميّ وأخّر سقوطه ثلاثة قرون ووقف شوكة في حلق الصليبيّة الاستعماريّة، وعاش في كنفه المسلمون أعزّة مرهوبيّ الجانب يعطيهم الأمريكان والأوروبيّون الجزية عن يد وهم صاغرون..ومازالت الجزائر إلى اليوم بيضة القبّان لمن أراد أن يسيطر على المتوسّط وشمال إفريقيا ويرنو بثقة إلى مجاهل إفريقيا جنوب الصّحراء، وهذا ما يفسّر الصّراع الأمريكيّ الأوروبيّ على كلّ من ليبيا وتونس بوصفهما موطئ قدم حيويّ للاستحواذ على الجزائر.. 

CATEGORIES
Share This